الفائزون في رمضان هم الذين أدركوا معنى الصوم وخصوصيته ومعنى الشهر
وامتيازه، وهم الذين فقهوا أحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم حول
صيام وقيام رمضان؛ حيث قال: عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من
ذنبه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" (متفق عليه).
وهم الذين تعرَّضوا لنفحات الله تعالى في هذه الأيام المباركة التي
خصَّها الله بالذكر والتنبيه، وقد قسَّمها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
ثلاثة أقسام، فأخبر عن رمضان أن أوَّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من
النار.
الفائزون هم الذين حرصوا من بداية الشهر على ألا يُحرموا "ليلة
القدر"، وهي الليلة العظيمة التي قال عنها ربنا تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ
مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾ (القدر)، والتي حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من
فواتها وتضييع الأجر فيها، فقال: "من حرمها فقد حُرم الخير كله"، وكيف لا؟
وهي التي يستجيب الله فيها الدعاء، وتتنزل فيها الرحمات ويحطُّ الله عنَّا
السيئات، ويمحو الخطايا، ويقبل التائبين.
ولحكمة بالغة أخفاها الله عنَّا معشر المسلمين لنجتهد في تحصيلها من
بداية الشهر الفضيل، وإلى نهايته، ويزداد اجتهادنا في العشر الأواخر منه؛
حيث يعوِّض المتأخرون ما فاتهم ويواصل المجتهدون نشاطهم، فيتأسّوا بالرسول
العظيم صلى الله عليه وسلم الذي كان يشدُّ المئزر ويوقظ أهله ويحيي الليل
كله.
الفائزون في رمضان هم الذين أحيا القرآن قلوبهم، فتدبَّروا آياته،
وتوقَّفوا عند معاني القرآن، وأحسنوا الصلة بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فصار
سَلِسًا على ألسنتهم، مؤثرًا في أفئدتهم، قريبًا من أسماعهم، فغيَّرهم
وغيَّر مفاهيمهم وسلوكهم، كما غيَّر الصحابة رضوان الله عليهم.
الفائزون في رمضان هم الذين ادركوا معنى الإيمان والاحتساب للأجر
عند الله تعالى، فهم صدَّقوا، وأيقنوا أن صومهم سرٌّ بينهم وبين ربهم، لا
يطلع عليه أحد من الخلق ولا يراءون به الناس.
وهم الذين يعلمون أن الأجر الحقيقي هو ما خبَّأه الله لهم، فإن
الصوم له، وهو الذي يجزي به، وإنما يوفَّي الصابرون أجرهم بغير حساب،
والصوم نصف الصبر.
هم الذين حقَّق الله الفرحة في قلوبهم عند فطرهم، وعند لقاء ربهم..
هم الذين حصلوا على الجائزة مع انتهاء شهر الصوم، فكان عيد الفطر لهم
عيدًا، ليس ككل الأعياد ولكنه انتهاء الامتحان، وظهور النتائج، وبيان نتائج
الأعمال، فيفرحون لتوفيق الله لهم، ويُخرجون صدقة فطرهم لتطهير أعمالهم من
أي نقص أو تقصير.
الفائزون في رمضان هم الذين بدءوا الشهر مبكرًا، فاستعدُّوا له قبل
قدومه، وعقدوا النيَّة على تحصيل فوائد الشهر العظيم، فبدءوا صومهم وقيامهم
بهمة وعزم أكيد، ثم واصلوا النشاط طوال الشهر بنفس الهمَّة القوية
والعزيمة الأكيدة، فلم يفترْ نشاطهم، ولم يفلح الشيطان في صرفهم عن
عباداتهم وأعمالهم، وختموا الشهر بهمة أكبر، ونشاط أشدّ، وعزيمة أقوى، لا
يُضيِّعون من الأوقات الثمينة دقيقةً واحدةً في غير رضوان الله تعالى،
فاجتهدوا في أيام العشر، وتهجَّدوا طويلاً، وبكوا بين يدي الله حسرةً على
الشهر الذي يكاد ينقضي ولا يعلمون هل يأتي عليهم رمضان القادم وهم من أهل
الدنيا أم من أهل القبور، وهل سيكونون من أهل الصحة والعافية القادرين على
الصيام والقيام أم تقعدهم الأمراض والشيخوخة نسأل الله العفو والعافية؟!!
الفائزون في رمضان هم الذين تلهج ألسنتهم بالدعاء الذي علَّمه
الرسول صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها "اللهم إنك
عفو تحب العفو فاعف عني"، فلا يرون لأنفسهم فضلاً، ولا يرون لأعمالهم
ذكرًا، ولا يشعرون إلا بالتقصير في جنب الله تعالى، فيشتدون في الدعاء أن
يجبر الله تقصيرهم، ويعفو عن زلاَّتهم، ويشملهم برحمته، فلن يدخل أحكم
الجنة بعمله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إلا أن يتغمدني الله
برحمته".
الفائزون في رمضان هم الذين اكتشفوا المؤامرات الشيطانية لإفساد
الليالي والأيام الرمضانية، فلم تلههم عن واجباتهم في رمضان، ولم تصرفهم عن
القيام والذكر والدعاء، فقد حوَّلوا شهر الجوع والعطش إلى شهر الطعام
والشراب والولائم والموائد الممتدة، وبدلاً من الانكباب على المصاحف، إذا
بالمسلمين ينشغلون بين المطابخ والفنادق والنوادي.
وقد حوَّلوا شهر السهر بين يدي الله، خاشعين متبتِّلين، إلى شهر
السهرات الطويلة أمام التليفزيون، من مسلسل إلى مسلسل، ومن برنامج إلى
برنامج، ويا ليتها تفيد، بل هي لكشف ستر الله على العصاة وللنميمة والغيبة
والعراك والشقاق، وكأنهم يتعمَّدون أن يغيظوا المؤمنين الذين يتحسَّرون على
رفع تعيين ليلة القدر؛ بسبب الملاحاة والمشاحنة، فإذا بهم يحوُّلون الليل
في رمضان إلى مشاحنات وخناقات.
وبعد أن انقضى عهد الفوازير التي لم تكن تأخذ دقائق معدودات إذا نحن
في عهد المسلسلات؛ التي وصل عددها إلى العشرات وقاربت المائة؛ لتفسد على
الناس صومهم وقيامهم وتلاوتهم بالساعات.
الفائزون في رمضان هم الذين صاموا وقاموا وأقبلوا على القرآن،
وتدبَّروا فهمًا وعملاً ودعوةً، وهم الذين تضرَّعوا بين يدي الله طويلاً،
واجتهدوا في الدعاء لأنفسهم وأزواجهم وذريَّاتهم وللمسلمين والمسلمات؛ عسى
الله أن يتقبَّل منهم ويستجيب لهم.
الفائزون في رمضان هم الذين تخلَّصوا من شحِّ أنفسهم، وأخرجوا
زكواتهم وصدقاتهم للفقراء الحقيقيين الذين لا يسألون الناس إلحافًا،
وتحسبهم أغنياء من التعفف، وتواصلوا مع أرحامهم، وخاصةً ما انقطع منها طوال
العام.
الفائزون في رمضان هم الذين تزوَّدوا من رمضان لبقية العام، فشحنوا
بطارية الإيمان، وتخلَّقوا بأخلاق المحسنين، وغيَّروا من أنفسهم؛ لعل الله
يغيَّر ما بهم مع إخوانهم في فلسطين وباكستان والعراق والصومال، واجتهدوا
في الدعاء والتطوع بالأموال لإغاثة هؤلاء المنكوبين.
ما زال في رمضان بقية للتزوُّد ولتدارك ما فات..
ها نحن نقبل على النصف الأخير من رمضان وعلى الليالي المباركات.. ليالي العشر الأواخر، ولعل فيها ليلة القدر العظيمة.
فهل نتدارك ما فاتنا؟ وهل نصحِّح النية من جديد؟ وهل نجدِّد العزم على التوبة الصادقة والأوبة والإنابة إلى الله تعالى؟!
ما زال في العمر بقية، ولعل الساعات الباقية من رمضان وفيها ختام
الأعمال تشهد لنا عند الله بأننا صدقنا العزم، وكنا حيث أمرنا الله، وغبنا
عمَّا لا يحب لنا الله، كنَّا في الطاعات والإقبال، وابتعدنا عن كل مفسدات
الصوم والمبطلات.
ــــــــــــــــــــ