نظرة على بعض أسرار الحج
بقلم : آية الله عبد الحسن نصيف أستاذ الحوزة العلمية في قم
الحج ركن من أركان الإسلام، ويجتمع فيه من المقاصد والأسرار ما لا يجتمع في غيره من سائر العبادات والأركان. ومع ما للصلاة من محورية في الدين، إذ أنها عماده التي "إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها"[1]، إلا أن الحج بنفسه يتضمن الصلاة، فهي إحدى واجباته، بل وأركانه، إن حملنا الطواف بشرائطه وضوابطه على أنه صلاة، كما ورد نظير ذلك في الشرع المقدس " أن الطواف بالبيت صلاة"[2]. كما أنه يحتضن روح فريضة الصوم في مضامينه ومقاصده، وكذلك الخمس والزكاة في أسرارهما والباعث عليهما. ومثل ذلك ينطبق على الوضوء والغسل وهكذا سائر الطهارات.
وفوق ذلك هو ينفرد عنها جميعاً بمرامٍ ومقاصد لا تكاد توجد في غيره. وهو بذلك يستوعب جميع القواعد الأساسية التي بني عليها الإسلام، التي استفاضت بذكرها تعاليم الدين الحنيف؛ فقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله: "بني الاسلام على خمس: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والولاية لنا أهل البيت"[3].
وهذا لا يتنافى مع أهمية الأمور الأربعة الأخرى، بل لا يتنافى حتى مع أفضلية مثل الصلاة والولاية، لأن الصلاة واجب من واجبات الحج فلا يتم بدونها، والولاية شرط لقبول الحج. فتكون أهمية الحج حينئذ نابعة من أهمية سائر أجزائه وشرائطه ولوازمه. ومن هنا ندرك معنى عد تارك الحج على حد الكفر بالله العظيم؛ قال عز وجل: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"[4]. وقد نقل بعض الأعلام أنه يقال لتارك الحج عند موته: " مت إن شئت يهوديّاً وإن شئت نصرانيّاً"[5].
ولعل هذا الأمر يستشعره المرشدون في الحج أكثر من غيرهم، لأنهم عادة ما يتواجهون مع الأحكام المتعددة التي يحتاجها مختلف الحجيج. فأحكام المرأة كثيرة فيه ومتداخلة، كما هي أحكام الرجل. وإذا كان للمرء أن يستغني - ربما - عن المرشد الديني في حياته العادية لأيام عدة، فإنه لا يمكنه ذلك عادة في موسم الحج. وهذا ما يفسر لنا تعجب شخص عملاق في الفقه، من أصحاب الإمام الصادق(ع)، كزرارة بن أعين، فيقول له مندهشاً: جعلني الله فداك ، أسألك في الحج منذ أربعين عاما فتفتيني ؟! فقال : "يا زرارة ، بيت حُجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاما ؟! ".[6]
إنه موسم انتفاضة كاملة إذن في حياة الحاج.. معرفية وبدنية وروحية وعقلية واجتماعية، تعيد صياغته وتأهيله من جديد، تنقله – لو فكّر – من عالم ناسوتي بدني متفان إلى عالم ملكوتي رحب، يغسل فيه أدرانه، ويطل به على مفاتح الغيب وآفاقه الباقية الخالدة.
فهو " أول بيت وضع للناس ... ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا"[7] وهو البيت الذي عهد الله فيه إلى نبيين عظيمين من أنبيائه بأن يطهراه (للطائفين والعاكفين والركع السجود )[8].
ولهذه الخصوصية فيه كان لحج البيت برنامجه المكثف والمميز الذي يعج بالدروس، ويضج بالعبر، قد يكون في ظاهره عجيباً، لكنه يلخص ملحمة الانسان في أيام معدودات، يعلّمه فيها النظام، ويحطم فيه الغرور، ويزرع فيه التواضع، ويعوّده على البذل والعطاء، ويضبطه على جادة العدل والاحسان، ونبذ الظلم والطغيان؛ فـ (ـمن دخله كان آمناً) منه ومن بطشه، حيواناً كان أونباتاً أوحشرات، بل حتى جسمه وشعيرات بدنه، لا يجوز له أن يتعدى عليها. وهكذا يجرده شيئاً فشيئاً من علائق الدنيا، ليغمسه مرة بعد مرة في غسول الذكر والعبودية.
هنالك يمر الحاج ببرامج شديدة، تحرم عليه فيها المباحات، فضلاً عن المحرمات، فزوجته التي هي حليلته يحظر عليه فيها حتى مجرد النظر إليها بشهوة، فضلاً عما كان يحرم عليه من التعدي على أعراض المسلمين. الزينة فيها محرمة، ولبس المخيط على الرجال، والاستظلال وشم العطور والروائح العطرة. فالمطلوب من الحجيج هناك أن يكونوا منقطعين إلى الله، متفكرين في قدرته، مناجين لرحمته ملبين لدعوته بين الفينة والأخرى لا يفترون، راجمين للشيطان، هاجرين للرفث والفسوق والجدال، وإن كانوا محقّين.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَهم حُرُمٌ ، منقادين له في خضوع، إذ يأمرهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[9].
(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق , لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[10].
غفلة بعض المؤمنين
على أن كل ذلك لن يكون مفيداً، بل ربما كان ضارّاً، إذا لم يكن الدافع من ورائه مرضاة الله عز وجل ووجهه الكريم. فـ ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[11].
هذا البرنامج السماوي قصد منه إنسانية الانسان بالدرجة الأولى، فهو المستفيد الأول والأخير. لكن بعض الناس يغفلون، فيباهون الناس بكثرة أموالهم، ولا يدعون حيلة إلا ولجأوا إليها من أجل التحلل من بعض تروكه، ويتصورون أنهم بدفعهم للكفارات قد حصلوا على النصيب الأوفى من الحج. وما أصدق الرسول العظيم (ص)، حين قال: " تحج الأغنياء للنزهة، وتحج أوساطهم للتجارة، وتحج فقراؤهم للرياء والسمعة"[12].
فإن الغفلة عن المقاصد العليا في الحج تدفع كثيرين إلى استهجان بعض طقوسه ومناسكه، كما حصل بالفعل لأحد المغفلين في زمان الإمام الصادق (ع)، وكانوا يعدونه من العلماء، وهو عبد الكريم بن أبي العوجاء. قالوا: إنه قدم مكة متمردا، وإنكارا على من يحج، وكان يكره العلماء مجالسته ومسائلته، لخبث لسانه وفساد ضميره، فأتى أبا عبدالله (ع) فجلس إليه في جماعة من نظرائه، فقال: يا أبا عبدالله إن المجالس أمانات ولابد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر[13] وتلوذون بهذا الحجر وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إن من فكر في هذا وقدّر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسّه[14] وتمامه"[15].
إنه لم يكن يرى في الحج، وكل ذلك البرنامج المنظوم الحكيم، سوى أحجار مهملة وعقول مقفلة. ولقد أجابه الإمام عليه السلام بما يقتضيه المقام. إلاّ أن هذه النظرة القشرية السطحية ما تزال موجودة عند كثيرين، إما بسبب الجهل والغفلة، أو بسبب العناد والعصبية.
ومن هنا لا يرى البعض في الحج غير فريضة دينية يقضونها إسقاطاً للواجب الشرعي لا أكثر، وأدهى من ذلك أن بعضهم يؤديها دفعاً للتهمة وإسكاتاً للناس! ولذلك لا تكاد تعثر فيهم على ما ذكرته الأحاديث من آثار جليلة للحج! هذا الحشر الهائل السنوي، والقيامة الصغرى، الذي تحلم ملل العالم الأخرى بمثيل له بين ظهرانيها، ولكنها لا تجده.
إن من نعم الله على أصحابنا الأمامية أدام الله عزهم وأدام توفيقهم، هذا الكم الهائل من الأذكار والأدعية، المأثور عن سادة الورى وأئمة الهدى، صلوات الله عليهم، وما جرت عليه سيرة أتباعهم من الانتماء إلى قوافل يؤمها ثلة من العلماء العارفين بأحكام الحج، والمتتبعين لآثار الديار المقدسة، ينظمون وفود الحاج، وينقلون إليهم فتاوى الفقهاء المجتهدين، في دقة وأمانة، ويعدون لهم الدروس والمحاضرات، التي يفتقدها غير أصحاب هذه المدرسة من سائر المسلمين، بحيث إنك ترى أصحابنا أيدهم الله متميزين بمعرفة المناسك، معروفين بالدقة في مواقف المشاعر، موصوفين بتعظيم الشعائر، وكم لنا على ذلك من تجارب خضناها، ومواقف شهدناها. وما ذلك إلاّ بفضل التمسك بالعروة الوثقى، والتحلق حول علمائنا الأفاضل الذين ينقلون لنا في مجالسهم تعاليم الدين المبين في أمانة ومحبة.
عبد الحسن نصيف
[1] أمالي الصدوق: ص739.
[2] جامع احاديث الشيعة، للسيد البروجردي: ج5 ص 508.
[3] الكافي للكليني: ج2 ص18.
[4] آل عمران: 97.
[5] ذكره السيد محسن الحكيم في دليل الناسك: ص5.
[6] من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق: ج2 ص519.
[7] آل عمران: 97.
[8] البقرة: 125.
[9] المائدة: 2.
[10] الحج: 28.
[11] الحج: 37.
[12] إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب، لليزدي الحائري: ج2 ص162.
[13] والبيدر: الموضع الذى يدالس فيه الطعام ويدق ليخرج الحب من السنبل. والطوب: الاجر.
[14] أساسه وأصله.
[15] الكافي للكليني: ج4 ص197.
منقول
تحياتي
موضوع: نظرة على بعض أسرار الحج 
الجمعة 21 أكتوبر 2011 - 2:58
