يختلط عند كثيرين مفهوم البدعة اللغوي بمفهومها الشرعي، فإذا بهم يبدّعون الناس ويفسّقون الناس، ويطلقون لفظ البدعة على كل شيء، ويحيلون حياة الناس كلها إلى بدع في بدع! ويتحدثون عن كل جديد على أنه بدعة مذمومة، وأنها ضلالة، وأنها في النار!
وهذا فهم مغلوط؛ إذ إن البدعة لابد أن تصادم وتضاد نصا معلوما في الكتاب أو السنة أو مقصدا من المقاصد الشرعية.
ولابد أن نفرق بين العبادات -والأصل فيها الاتباع ومنع الابتداع فيها- والمعاملات والعادات والأطعمة والأشربة والأصل في هذا كله الجواز.
جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير في مادة "بدع":
"وفي حديث عمر t في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه": البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فهو في حيّز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه الله أو رسوله، فهو في حيّز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جعل له في ذلك ثوابا فقال (صلى الله عليه وسلم): "من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها".. وقال في ضده: "ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها".. وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، ومن هذا النوع قول عمر t: "نعمت البدعة هذه".. لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيّز المدح سماها بدعة ومدحها؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسنّها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر t جمع الناس عليها وندبهم إليها، فلهذا سماها "بدعة" وهي على الحقيقة سنة، بقوله (صلى الله عليه وسلم): "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".. وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر: "كل محدثة بدعة" إنما يريد ما خالف أصول الشريعة، ولم يوافق السنة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عُرفا في الذم.
ويقول الشيخ عطية صقر يرحمه الله معلقا على ما أورده لابن الأثير: إن تحديد المفاهيم عنصر مهم من عناصر البحث في أي موضوع، وبدونه تختلف الأحكام وتتضارب الأقوال، ويحدث التفرق. وتحديد مفهوم البدعة التي هي ضلالة في النار، فيه صعوبة، ومن ركام التعريفات التي مُلئت بها الكتب أستطيع أن أقول: إن للعلماء في تعريف البدعة منهجين، أولهما لغوي عام، والآخر اصطلاحي خاص.
فأصحاب المنهج الأول نظروا إلى مادة "البدعة" التي تدل على اختراع على غير مثال سبق، فعرفوها بأنها: ما أُحدث بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) وبعد القرون المشهود لها بالخير. وهذا التعريف يدخل فيه ما كان خيرا وما كان شرا، وما كان عبادة وما كان غير عبادة، والذي حملهم على هذا التعريف الشامل ورود لفظ "البدعة" مرة محمولا عليه الذم، ومرة محمولا عليه المدح، وبهذا عُرف أن البدعة قد تكون محمودة وقد تكون مذمومة.. قال الشافعي t: المحدثات من الأمور ضربان، أحدهما: ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير، وهذه محدثة غير مذمومة. وعلى هذه الطريقة في تعريف البدعة، وشمولها للممدوح والمذموم جرى عز الدين بن عبدالسلام فقسم البدعة إلى: واجبة، كوضع العلوم العربية وتعليمها. ومندوبة، كإقامة المدارس. ومحرمة، كتلحين القرآن بما يغير ألفاظه عن الوضع العربي. ومكروهة، كتزيين المساجد. ومباحة، كوضع الأطعمة ألوانا على المائدة.
وأصحاب المنهج الثاني عرّفوا البدعة بأنها: الطريقة المخترعة على أنها من الدين وليست من الدين في شيء. أو بأنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية، ويقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، وتدخل فيها العبادات وغيرها، وقصرها بعضهم على العبادات. وعلى هذا التعريف تكون البدعة مذمومة على كل حال، ولا يدخل في تقسيمها واجب ولا مندوب ولا مباح، وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث: "كل بدعة ضلالة".. ويحمل قول مالك t: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) خان الرسالة؛ لأن الله U قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3].. وأصحاب هذا المنهج يحملون قول عمر في صلاة التراويح على المعنى اللغوي.