الملك و المزبلة
قد بلغنا أن ملكا من الملوك كان عاقلا قريبا من الناس مصلحا لأمورهم، حسن النظر والانصاف لهم، وكان له وزير صدق صالح يعينه على الاصلاح ويكفيه مؤونته ويشاوره في أموره، وكان الوزير أديبا عاقلا، له دين وورع ونزاهة على الدنيا .
ثم إن الملك قال للوزير ذات ليلة من الليالي بعد ما هدأت العيون: هل لك أن تركب فنسير في المدينة فننظر إلى حال الناس وآثار الأمطار التي أصابتهم في هذه الأيام؟ فقال الوزير: نعم فركبا جميعا يجولان في نواحي المدينة فمرا في بعض الطريق على مزبلة تشبه الجبل، فنظر الملك إلى ضوء النار تبدو في ناحية المزبلة، فقال للوزير:
إن لهذه لقصة فأنزل بنا نمشي حتى ندنو منها فنعلم خبرها، ففعلا ذلك فلما انتهيا إلى مخرج الضوء وجدا نقبا شبيها بالغار، وفيه مسكين من المساكين ثم نظرا في الغار من حيث لا يراهما الرجل فإذا الرجل مشوه الخلق، عليه ثياب خلقان من خلقان المزبلة، متكئ على متكأ قد هيأه من الزبل، وبين يديه إبريق فخار، فيه شراب وفي يده طنبور، يضرب بيده وامرأته في مثل خلقه ولباسه قائمة بين يديه تسقيه إذا استسقى منها، وترقص له إذا ضرب، وتحييه بتحية الملوك كلما شرب، وهو يسميها سيدة النساء، وهما يصفان أنفسهما بالحسن والجمال وبينهما من السرور والضحك والطرب ما لا يوصف، فقام الملك على رجليه مليا والوزير ينظر كذلك ويتعجبان من لذتهما وإعجابهما بما هما فيه، ثم انصرف الملك والوزير فقال الملك: ما أعلمني وإياك أصابنا الدهر من اللذة والسرور والفرح مثل ما أصاب هذين الليلة مع أني أظنهما يصنعان كل ليلة مثل هذا، فاغتنم الوزير ذلك منه، ووجد فرصة فقال له:
أخاف أيها الملك أن يكون دنيانا هذه من الغرور ويكون ملكك وما نحن فيه من البهجة والسرور في أعين من يعرف الملكوت الدائم مثل هذه المزبلة، ومثل هذين الشخصين اللذين رأيناهما، وتكون مساكننا وما شيدنا منها عند من يرجو مساكن السعادة وثواب الآخرة مثل هذا الغار في أعيننا، وتكون أجسادنا عند من يعرف الطهارة والنضارة والحسن والصحة مثل جسد هذه المشوه الخلق في أعيننا، و يكون تعجبهم عن إعجابنا بما نحن فيه كتعجبنا من إعجاب هذين الشخصين بما هما فيه.
قال الملك وهل تعرف لهذه الصفة أهلا؟ قال الوزير: نعم، قال الملك:
من هم؟ قال الوزير: أهل الدين الذي عرفوا ملك الآخرة ونعيمها فطلبوه، قال الملك: وما ملك الآخرة؟ قال الوزير هو النعيم الذي لا بؤس بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، والفرح الذي لا ترح بعده، والصحة التي لا سقم بعدها، والرضي الذي لا سخط بعده، والامن الذي لا خوف بعده، والحياة التي لا موت بعدها، والملك الذي لا زوال له، هي دار البقاء، ودار الحيوان، التي لا انقطاع لها، ولا تغير فيها، رفع الله عز وجل عن ساكنيها فيها السقم والهرم والشقاء والنصب والمرض والجوع والظمأ والموت، فهذه صفة ملك الآخرة وخبرها أيها الملك.
قال الملك: وهل تدركون إلى هذه الدار مطلبا وإلى دخولها سبيلا؟ قال الوزير: نعم هي مهيأة لمن طلبها من وجه مطلبها، ومن أتاها من بابها ظفر بها، قال الملك: ما منعك أن تخبرني بهذا قبل اليوم؟ قال الوزير: منعني من ذلك إجلالك والهيبة لسلطانك، قال الملك: لئن كان هذا الامر الذي وصفت يقينا فلا ينبغي لنا أن نضيعه ولا نترك العمل به في إصابته، ولكنا نجتهد حتى يصح لنا خبره، قال الوزير: أفتأمرني أيها الملك أن أو اظب عليك في ذكره والتكرير له؟
قال الملك: بل آمرك أن لا تقطع عني ذكره ليلا ولا نهارا، ولا تريحني ولا تمسك عني ذكره فإن هذا أمر عجيب لا يتهاون به، ولا يغفل عن مثله، وكان سبيل ذلك الملك والوزير إلى النجاة.
كمال الدين وتمام النعمة - للشيخ الجليل الأقدم الصدوق
ج ١ - الصفحة 633 - 632