المرأة تطلب لأمور
واقع الحياة الزوجية :
إن واقع الحياة الزوجية عبارة عن تزاوج بين النفوس لا بين الأبدان.. وهذا خلافاً لما هو في ذهن عامة الشباب وعامة الشابات، الذين يرون بأن الحالة الزوجية عبارة عن اقتران بدني، يغلب عليه الجانب الغريزي.. والحال بأنه إذا اعتقد الزوجان بأن هنالك تزاوجا بين النفوس، فمن الطبيعي أن يحاولا تقريب الانسجام النفسي فيما بينهما.. فالجوانب الغريزية من الأمور التابعة للجانب النفسي، أي أنه إذا وجدت المودة والرحمة، فإن الجانب الغريزي أيضاً يصبح له وقع متميز بين الزوجين.. ومن هنا نحن نعتقد أن الأسرة المثالية -الأسرة الإيمانية- تعيش حالة السرور التام، قلباً وقالباً.
فإذن، إن الحل يكمن في الوصول إلى هذه النقطة، وهي: أن التزاوج يحتاج إلى بلوغ نفسي.. أي أنه لابد للزوجين أن يُرّفعا من مستوى التفكير، بحيث يكون العقل هو العنصر الحاكم في الحياة الزوجية.. ومن الملاحظ أن هناك تأكيداً لا نظير له في الروايات على عنصر العقل، كالذي ورد عن الإمام الباقر (ع) إذ قال: (لما خلق الله عزوجل العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي!.. ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب).. إن الله عزوجل لا يكَّمل العقل إلا فيمن يحب، فإذا أحب الله عبداً أكمل فيه الجانب العقلي والجانب التعقلي.. ومن المعلوم أن العقل إجمالاً -كما في تعريف بعض الروايات- هو: (ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان).
إن هنالك حاكمين متشاكسين في مملكة الوجود، وهما: حاكمية العقل، وفي المقابل هنالك جنود الهوى؛ والحرب سجال فيما بينهما.. ولكن كما نفهم من روايات أهل البيت (ص) أن هذا العقل يعمل في وجود الإنسان على نحو هبة إلهية.. هناك أجهزة إنذار داخل وجود الإنسان، ما يسمى -هذه الأيام- بالوجدان، أو بالضمير، أو بالجهات المؤنبة في وجود الإنسان، ولكن مع مرور الزمن وعدم الإصغاء لنداء الباطن والفطرة والوجدان، نلاحظ بأن هذا الحاكم يُعزل من منصبه.. وبالتالي، فإن جنود الهوى تصبح هي الحاكمة في مملكة العقل.
وإذا اتفق الزوجان في حياتهما الزوجية على هذين الحاكمين: حاكم الدين، وحاكم العقل؛ فإن حياتهما ستكون مستقرة وسعيدة.. نحن لا ننكر بأن العقل لابد من ضمه إلى جانب الدين؛ لأن الإنسان من الممكن أن يعلم المسألة الشرعية، ولكن لا عقل له كي يشخص له الموضوع.. مثلاً: نحن نعلم أن المرأة عليها أن لا تخرج من المنزل إلا بإذن الزوج، وأن لا تعمل بما ينافي حق الزوج؛ ولكن تشخيص ما هو حق الزوج، ومتى تنتهك حرمات الزوج، ومسألة العدالة في التعامل في الحياة الزوجية، وما شابه ذلك، قد يستشكل فهمها وتطبيقها؛ فالمشكلة بين الزوجين هي في تطبيق المصاديق.. هذه الأيام من روافد الخلاف الكبرى بين الزوجين -كما نستقرئ ونسمع- هو تحيز كل واحد منهما إلى أهله، بداعي صلة الرحم.. من قال بأن صلة الرحم بهذه الصيغة التي يراها؟!.. وهنا يأتي دور العقل والفهم والالتفات العرفي، لتشخيص المفاهيم.. فالزوجان متفقان في هذه الناحية: أنه لابد من العمل بهذه المبادئ، ولكن المشكلة في تطبيق المبادئ في حياتهم الزوجية، ولهذا لابد من الاستعانة بالشرع، والاستعانة بالعقل وبالفهم المنطقي للأمور.
ومن هنا يحسن العمل بهذا الاقتراح: في اجتماعاتنا المهمة المصيرية في الحياة، وحتى للأمور المادية، وفي المفاوضات الأسرية، مثلاً: إذا أراد الإنسان أن يجلس إلى ولده لينقل له نصيحة مهمة، قد تغير مجرى حياته، من المناسب أن يلتجئ إلى الله عزوجل بركعتين، بنية طلب التسديد.. وهنالك ركعتان بعنوان صلاة الاستخارة، بعد الانتهاء يقول: (اللهم!.. خر لي واختر لي خِيّرة في عافية) مئة مرة، ثم ينظر إلى قلبه، فما يقع في قلبه يقال بأن هذا هو الذي يريده الرحمن.. لنستعمل هذه الصيغة في أحاديثنا وفي خلافاتنا، بأن نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يقذف في قلوبنا ما يريده.
وينبغي أن لا نتعجب من هذه الظاهرة، فإن الأمر كما نلاحظ في القرآن الكريم في آية صريحة، إذ يقول تعالى: {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} فمن هو هذا الموفق؟.. هل الله عزوجل يوفق بينهما؟.. هل يبعث لهما ملكاً؟.. هل يوحي إليهما؟.. لله عزوجل أسلوبه الخاص في مسألة الإلقاء في الورع، ليوفق بينهما، ومن صور التوفيق الإلهي أن يرجع المودة المجعولة التي سلبت.. نحن قلنا أنه بمجرد الزواج تقذف حالة المودة، وهذه المودة تتلاشى مع مرور الأيام مع الخلاف، ولكن لا ينبغي اليأس في هذا المجال، ولا بأس أن يطلب الإنسان من الله عزوجل أن يعيد إلى الحياة الزوجية تلك المودة التي سلبت، نتيجة لبعض الممارسات الخاطئة أو ما شابه ذلك.
المرأة تطلب لأمور :
إن المرأة تطلب لأمور، منها :
- الاستمتاع الغريزي :
لا شك أن دافع الغريزة دافع حقيقي، وليس دافعاً تخيلياً.. حيث أن هنالك هرمونات تفرزها غدد تصب في بدن الإنسان، ومركز هذه الغدد في مخ الإنسان.. فالإنسان قد يكابر ويقول: أنه لا شهوة لي، ولا غريزة لي؛ ولكن هنالك واقعا، من قبيل الماء الذي يدخل الحقل، والزارع ينكر وجود الماء في حقله!.. لا يمكن الإنكار، لأن هذا رافد طبيعي، فهنالك أمطار تأتي رغم أنف الزارع وتدخل في أرضه.. إن الحركة الهرمونية في البدن هي هكذا، هنالك سيل من الهرمونات تنزل في دم الإنسان، فيثار، حتى لو كان صاحبه في أعلى درجات النزاهة الأخلاقية أو جهاد النفس.. فإذن، الجانب الغريزي لا يمكن إنكاره في حياة الإنسان المؤمن، فكيف إذا كان الإنسان ممن يثير غريزته عمداً: إثارةً عن طريق الصور، والواقع، والتخيل وما شابه ذلك؟!..
- تدبير شؤون المنزل :
إن هذا الهدف هو أيضا من أهداف الحياة الزوجية، وهذا واقع لا ينكر، بأن الرجال يتحركون؛ لسد هذا الفراغ في حياتهم اليومية.
- الرغبة في التناسل :
كذلك مسألة التناسل.. فالإنسان له الحق أن يتمنى وجود حرث ونسل بعد وفاته، مما يدعوه إلى أن يتناسل.. ولهذا نلاحظ في بعض الحالات من الخلاف الزوجي أن الزوجين يصرحان أمام بعضهما البعض، أنه لولا مسألة الأولاد لما استمرينا في هذه العلاقة.
- الأنس والارتياح النفسي :
إن الإنسان بطبيعته اجتماعي، لا يريد الوحدة.. ولهذا يقال أن الذين يألفون الوحدة والعزلة، هم أحد أمرين: إما أنهم يعيشون حالة الأنس الشديد بالله عزوجل، بحيث يغنيهم عن التعامل مع المخلوقين.. وإما أن يكون منشأ ذلك حالة نفسية، أي أنهم يعيشون حالة من الاكتئاب.. أي إما هي حالة كمالية كبيرة، أو حالة مرضية.. فإذن، إن الحالة الطبيعية لعامة الناس أنه لا يطيق الوحدة، ولا يحب البيت الذي يخلو من أنس بشري.
تجريد :
وبعد أن ناقشنا هذه العوامل الأربع: الغريزة، والتدبير، والتناسل، والأنس النفسي؛ وقلنا بأن هذه الأمور محركات ومرغبات جيدة في تثبيت الحياة الأسرية، ولكن من المعلوم أن مرور الأيام تنحت في هذه العوامل، كعوامل التعرية التي تنحت من هذه الجبال القوية:
بالنسبة إلى الاستمتاع الغريزي، من الطبيعي أن تقدم السن مما يوجب أفول هذه الغريزة، أو على الأقل انخفاض تلك الحالة من الشدة.. وحاجة الإنسان إلى تدبير شؤون المنزل أيضاً ليست من المرغبات الثابتة، فهذه الأيام متعارف في بلادنا الاستعانة بمسألة الخدم.. وأما موضوع التناسل فبعض الناس لهم هدف في هذه الحياة أن يأتي بطفلين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فإذا وصل إلى مرحلة الإشباع والاكتفاء، أيضاً هذا العنصر يفقد بريقه..
وكذلك مسألة الارتياح والأنس النفسي.. فإن الله عزوجل جعل هذه الخاصية في الحياة الدنيا، وهي: أن بهجة الحياة الدنيا بهجة مملولة.. ندخل قصراً فخماً -وهذه الأيام ممكن دخول القصور من خلال بعض المتاحف أو ما شابه ذلك-، نلاحظ بأن هذا الجمال المادي بعد فترة قصيرة يتحول إلى جمال مألوف، بل إلى لا جمال.. وعندما نسأل أهل المصائف أو الأماكن الجميلة عن جمال الطبيعة، نرى أنه لا يكاد أحدهم يرى جمالاً في خضرته، ولا في بلاده، ولا في مياهه، حتى تصبح أصوات البلابل وألحانها بالنسبة إليهم صوتاً مألوفاً بل مملولاً.. ولعل هذا من الحكم الإلهية، في أن لا يجعل الإنسان يأنس بهذا الحطام الزائل.. وأيضاً شكل المرأة، وجمال المرأة -هذا الظاهر الذي ينعكس على الجلد- من مصاديق المتاع الدنيوي.. ولهذا نلاحظ أنه في الأشهر الأولى من الزواج -إذا كان الزواج لا يبتني على أسس محكمة- حالة التململ والشبع، وعدم الاعتناء من الطرفين، لأن هذه الحالة تتلاشى مع مرور الأيام.
الإحساس بالمسؤولية، والنظر إلى المرأة بأنها أمانة الله تعالى في الأرض :
إذن، ما الحل؟..
لابد من أن نضع عنصراً جديداً، وهذا العنصر لا يتلاشى مع تقادم الأيام، ما هو ذلك العنصر؟.. هو هذا المبدأ الذي عبر عنه النبي (ص): (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته).. إذا نظرنا إلى الزوجة على أنها أمانة إلهية، وعلى أنها أسيرة بأيدينا، وعلى أن المرأة لا خيار لها بالزواج بعد الزواج الأول، فالرجل له خياراته، ولكن المرأة بحسب الشريعة لا خيار لها.. بعض الأوقات تضطر المرأة أن تعيش في زاوية محشورة، لا ترضى بأن تبقى متألمة بما هي فيه، من دون أن تفكر في حياة بديلة، فتتحول إلى عصفورة في القفص.. ومن هنا ينبغي أن نقدر هذه الحالة، بأن المرأة لا مفر لها من الحياة الزوجية..
وكم من القبيح أن يستغل الرجل هذا الجانب، عندما يرى أن زوجته مجبرة على العيش معه، وبالتالي تصبح هذه الحالة أداة ابتزاز بيد الرجل، لأنه يعلم بأن هذه المرأة لا خيار لها في الحياة!.. والحال بأن هذه الدنيا تنقضي، ويأتي ذلك اليوم الذي يخاطب رب العالمين عبده قائلاً: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}، وفي آية أخرى صريحة يقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.. في جوف الليل وخلف الأبواب المغلقة، حيث لا أهل ولا أرحام ولا عشيرة، والرجل يظن بأنه قد استفرد بزوجته، والحال بأن الله عزوجل يسمع التحاور، لا سمعاً مجرداً، بل سمعاً مراقِباً ومنتقِماً أو مثيباً.. ينتقم للمظلوم، ويجازي الذي يرفع الظلامة.. فإذن، إن هذه الآية: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} من الآيات المخيفة في القرآن الكريم، ولو اعتقدنا بهذا المضمون اعتقاداً حقيقياً، لانقلب نمط الحياة في التعامل الزوجي.
روي عن النبي (ص) أنه قال: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسنكم أخلاقاً، وخيركم لأهله.. وأنا ألطفكم بأهلي):
(أقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحسنكم أخلاقاً..): نلاحظ هنا أن النبي (ص) لم يذكر عالم الأوراد، ولم يذكر الأدعية، ولم يذكر العبادات المجردة من تطبيق في ساحة الحياة، وإنما قال: (أحسنكم أخلاقاً).. إن هناك معنى ساذجا خاطئا للخلق الحسن بين الناس، وهو أنهم يحصرون الخلق الحسن بالابتسامة، وبالمزاح الكثير، وبحالة التهريج.. ولكن الحقيقة أن المراد بحسن الخلق هنا، هو الحالة الجامعة، بمعنى أن يكون الإنسان مستقيماً في كل حركاته الباطنية.. حيث أن للإنسان حركات في الظاهر، وحركات في الباطن: ميلاً، وحباً وبغضاً، وانجذاباً وابتعاداً؛ فكل هذه الحركات الباطنية لابد وأن تكون منسجمة مع رضا الخالق.
(وأنا ألطفكم بأهلي): من المعلوم بأن رسول الله (ص) لم يتزوج من الطبقة العليا من المسلمات.. فالنبي (ص) لم يتزوج قمة النساء المؤمنات في عصره، ومع ذلك نلاحظ بأن خلق النبي (ص) مع زوجاته على اختلاف مراتبهن، كان هو الخلق المثالي صبراً وتحملاً.. والنبي (ص) هو الذي كان يعيش في ساعات تحليقاً مع الله عزوجل، لا تحليقاً مجرداً، وإنما كان في معراج متكرر، ويرجع من عند رب العالمين ليعاشر الناس على اختلاف أمزجتهم كأعراب البادية، ويتحمل بعض التصرفات الصادرة من الصحابة ومن المقربين للنبي (ص).. لقد كان النبي (ص) يعيش حالة التأقلم مع كل هذه الحالات، رغم أنها ثقيلة على طبعه وعلى مزاجه.
فإذن، إن الذي يريد أن يضفي على حياته الزوجية عنصراً ثابتاً، لا يتغير مع مرور الزمان؛ فلينظر إلى زوجته على أنها أمانة الله بيده، ومخلوقة لله.. وليعلم بأن أشد المدافعين عن المرأة لا هو أبوها ولا أمها، إنما أشد المدافعين عن هذه المخلوقة هو ربها الذي خلقها وأحسن خلقها.. وخاصةً إذا كانت المرأة متفوقة إيمانياً، لها صلتها بربها، ولها حالاتها، ولها عبادتها.. فإن هذه الزوجة قد ينتصر لها الله عزوجل، كما هو دأبه في الانتصار للذين لا ناصر لهم إلا الله
م
ن
ق
و
ل