مرض العصر التبرم وتلون المزاج
إن للناس سبلا ثلاثة في مواجهتهم لأية أزمة نفسية..
فالأول -وهو الشائع منها- هو الاستسلام، وعدم التحرك لمعرفة الأسباب وعلاجها، وبالتالي فهم يعيشون حالة من التأقلم مع الأزمة على مضض، ومن الطبيعي أن يصل الأمر في بعض الحالات إلى حالة الانهيار، عندما لا تقاوم سدود النفس تلك الأمواج العاتية..
والثاني: فهي محاولة التظاهر بأنه لا مشكلة في البين، ومن ثم المبالغة في اقتناء الملذات والانغماس في الشهوات، ومنها الإدمان على الممنوعات، كل ذلك لكي ينسى الفرد ما هو فيه..
والقسم الثالث: هو البحث عن الجذور، والاعتقاد بأن الحل هو في القضاء على الأزمة لا في تجاهلها.
إن من الأمراض الشائعة والتي من الممكن القول بأنه لا يخلو منه فرد -وإن حاول البعض المكابرة، وإنكار ما هو فيه- ألا وهي حالة التبرم والضيق، وعدم الإحساس بالانبساط النفسي، ومن الطبيع أن تنعكس هذه الحالة حتى على البدن.. وليس من البعيد أن يشير القرآن إلى هذه الحقيقة من خلال التعبير بـ {يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} لوضوح أنه كلما ارتفعنا في طبقات الجو العليا؛ كلما صعبت علينا عملية التنفس.. وعليه، فإن الأزمة لا تكون سببا لفوات المنافع الأخروية فحسب!.. بل سببا لمعيشة الضنك التي تنتظر المعرضين عن ذكر الله تعالى.
إن الحياة الدنيا في واقعها ضيقة جدا، فإن حدودها المادية تجعل التحرك فيها محدودا، إذ المجال غير مفتوح لأن يحقق الإنسان كل طموحاته في الحياة الدنيا.. ومن هنا يبتلى بنكسة بعد أخرى عندما يخسر رغبة من رغباته، أضف إلى أن طبيعة المتاع الدنيوي سرعان ما توجب الملل؛ لأنه لا تجدد فيه.. وهذا هو الذي يعترف به المتوغلون في عالم الاستمتاع الجسدي، عندما يستنفدون كل ألوان المتع، ويصلون إلى طريق مسدود في الحياة؛ فإنهم يعيشون حالة من الارتداد على أنفسهم، والتبرم من واقعهم إلى درجة يقدم أحدهم على إنهاء حياته، عندما لا يجد مبررا للاستمرار في ذلك.
إن الله تعالى يدعونا إلى الحياة السعيدة، من خلال ما رسمه لنا من خطة الحياة.. فإذا رأى عبده عاكفا على طاعته؛ فإنه سيمنحه تلك المنحة النادرة التي لا يصل إليها أحد من عشاق الهوى: ألا وهو شرح الصدر، والذي إذا وصل إليه العبد؛ فإنه سيرى كل ما في الوجود -إلى جنبه تعالى- صغيرا وإن كبر عند الناس.. إذ أنه ليس هناك شيء فى عالم الوجود، يستحق الالتفات إليه باستقلال، إذ أزمة الأمور طرا بيده، والكل مستمدة من مدده.. أو هل يا ترى من الممكن أن يستسلم من يعيش هذه الحالة من الترفع الباطني، لأزمة من الأزمات، وهو يعتقد أن الكاشف عن كربه، هو من بيده مقاليد السموات والأرض؟!..
إن من آثار انشراح الصدر هو: الإحساس بحالة التمدد في خط الوجود، بحيث يرى كل شيء بمنظار الوقوع فى خط الأبدية.. فكل إيجاب -عاقبته السلب في خط الزمن المستوعب للبرزخ والقيامة- لا يمكن أن يعد إيجابا بل هو عين السلب.. فإن من الغباء بمكان، أن يكدس الإنسان موجبات الشقاء الأبدي في الحياة الخالدة، مقابل سويعات من الأنس المحرم، وهو يعلم بفنائية اللذة وبقائية التبعة!.. ومن هنا نعتقد أن تذكر الموقف المخجل مع رب العالمين حينما يقول: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} لهو نعم الرادع في هذا المجال، عند الهم بارتكاب المعصية.
عندما سئل النبي (ص) عن شرح الصدر، فإنه لم يذكر الأسباب الموجبة لذلك من جهة العبد، فإن سعى العبد -مهما كان جادا- فإنه لا يثمر هذه الثمرة الغالية، والتي هي من نفائس هذا الوجود، وإنما يحيل الأمر إلى هبات الواهب المنان، وذلك حينما عبر عنه قائلا: (نور يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فيشرح صدره وينفسح)... فتأمل في كلمة (النور) الدالة على أن هذه الأداة يرفع التحير من حياة الإنسان، ذلك التحير الذي يقضّ مضاجع أغلب الخلق؛ فإنهم لا يعلمون إلى أين يسيرون بشكل واضح، لا في دنياهم ولا في آخرتهم!.. وتأمل في كلمة (يقذفه) الدالة على الأمر الإلهي الذي لا بد وأن يتحقق من جانب المولى، وذلك حينما يرى قابلية في نفس عبده المؤمن، لتلقي هذا الفيض الربوبي.
إن من بركات شرح الصدر أيضا هو: توفيق العبد لأن يكون مرشحا فى دائرة الدعوة إلى الله تعالى؛ فإن شرف دلالة العبيد على الله تعالى شرف عظيم.. ومن المعروف أن من أراد أن يأخذ المولى بيده، فليحاول الأخذ بأيدي العباد من التائهين عن طريق العبودية، فإن معظم التسديد يأتي في عالم توسعة آثار الشريعة في نفوس العباد، وتحكيم قواعد الحاكمية في البلاد.. ومن هنا طلب الكليم (ع) من ربه أن يمنحه شرح الصدر قبل أن يتوجه إلى فرعون، رغم ما أوتى من الآيات الباهرة.
ومن الآثار المهمة لشرح الصدر، والتي يعشقها الكثيرون هي: حالة المحبوبية في نفوس الخلق، فإن منشرح الصدر موجود لطيف رقيق، لا يخرج عن طوره بل يعيد الخارجون عن أطوارهم إلى نصابهم.. ومن هنا صاروا مصدر خير في الأرض، كما ذكر القرآن الكريم بالنسبة إلى المسيح، حينما ذكر نعمة الله تعالى عليه قائلا: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ).. إننا ندعو الذين يريدون محبة الخلق -وخاصة الذين يشتكون من جفاء الخلق، وخاصة في الحياة الأسرية- إلى التأمل في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا).. ولنتساءل أخيرا: ما قيمة ذلك الود الذي يأتي من غير هذا السبيل؟!.. وهل المتوادون هذه الأيام أوفياء لهذا الود؟!.. ولو كانوا أوفياء، فإن أحدهم يرى لوعة الفراق أمام عينه في الدنيا قبل الآخرة!.. وأما في الآخرة، فهل تدع أهوال القيامة لبا لذي لب؛ كي يفكر فيمن كان يهواه قبل دهور غابرة؟!.
منقول