ما حقيقة الولاية التكوينية في السنة الشريفة ؟
إن من المسائل العقائدية، مسألة حدود الولاية، التي هي ثابتة لأئمة أهل الهدى وللمعصوم بشكل عام.. فهناك مساحة ومقدار مسلّم بها بين الجميع ممن يعتقد بخط الإمامة، وهي أن الولاية للنبي وللأئمة ومن ذريته من بعده.. وأن الله عز وجل أعلم حيث يجعل الوصاية، كما أنه أعلم حيث يجعل النبوة والرسالة!.. وهناك أيضا تساؤل: ماهي حدود تصرفات المعصوم في عالم التكوين والطبيعة والأرض والسماء؟..
يوجد هناك من ينكر هذا الأمر، ويرى بأن المعصوم -عليه السلام- هو بمثابة عالم، له حجم ومساحة كبيرة من العلم، الذي اكتسبه من اتصاله بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من خلال مواريث الأنبياء: كالجفر مثلاً. وما انتقل إليهم من خلال آبائهم: صدراً من صدر.. فهذا المقدار يراه من المقام لهم صلوات الله وسلامه عليهم.. ولم يخلق الله عز وجل في هذه الأمة الخاتمة، وجوداً أرقى من هذه الذوات الطاهرة؛ لأنه ختم دينه بالإسلام، وختم معجزاته بالقرآن، وختم أنبيائه بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وختم الأوصياء بالأئمة عليهم والسلام.
وكما هو معلوم بأن الإمام المهدي عليه السلام -وهو البقية منهم- يمثل الحلقة الأخيرة قبل يوم القيامة، من حيث الخلق المتميز.. فلا يأتي بعد إمامنا المهدي -عليه السلام- كإمام من يمثل هذا الخط.. فجدهم خاتم الأنبياء (ص)، وعلي أمير المؤمنين خاتم الأوصياء، والأئمة ورثته.. أرادوا من خلال تعابير متفرقة، أن يثبِّتوا بالإنسان هذا المعنى، وهو أن الإنسان عاجز عن معرفتهم كما هم، وإنما يلتمس ذلك التماساً؛ من خلال كلماتهم، وبعض ما أثر عنهم، ومن خلال بعض كراماتهم.. يقول الإمام الصادق عيه السلام : (من عرف فاطمة حق معرفتها، فقد ادرك ليلة القدر).. والله عز وجل قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، وكذلك قال الإمام: (وإنما سميت فاطمة؛ لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها)؛ أي أن من وجوه تسمية الزهراء (ع) بهذا الاسم، هو أن الخلق فطموا عن معرفتها -والخلق كلمة جامعة- إلا ما خرج بالدليل، وهم أبوها وبعلها وبنوها.. فإذن، إذا كانت فاطمة -وهي ليست بمستوى الأئمة عليهم السلام من حيث مقام الإمامة؛ ولكنها تشترك معهم من حيث العصمة- كذلك!.. فكيف بمن هو إمام فعليّ، وقد أُعطي هذه الدرجة الكبرى، التي كان يتمناها إبراهيم عليه السلام؟!..
فمبدئياً لا ينبغي المسارعة في إنكار مقام أو رتبة منقولة عن المعصوم عليه السلام، فالمرء له الحق أن يتوقف إن كان الدليل غير وافٍ.. وأما أصل أن يكون الإمام في هذه المثابة من الصلاحية الواسعة بإذن الله عز وجل، فلا ضير في ذلك عقلاً.. وخاصة أن القرآن الكريم، مهّد لهذا المعنى في حياة السلف من الأنبياء وغير الأنبياء.. فالقرآن تعمد ذكر بعض الحركات التي هي خارج قوانين الطبيعة، فهذا الذي عنده علم من الكتاب، كان قد وعد بأن يأتي بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وهذا لم يثبت بأنه نبي.. وكذلك الحال مع الأنبياء، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} فكان نبي الله عيسى -عليه السلام- يحيي الموتى، بإذن الله عز وجل.. أما بالنسبة إلى النبي سليمان عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ}.. فهذا يعني بأن هناك تفويضا أولياً، ومن ثم بعد ذلك يتصرف سليمان -عليه السلام- في الريح، فتجري بأمره.. وقد أعطاه الله هذا الحق، في أن يتصرف بالرياح.. فالقرآن مهّد الأذهان لتلقي هذه المعلومة، وخاصة أن الإعجاز يكون بحسب البشر.
ورب العالمين لا يختلف عنده الإعجاز وغير الإعجاز أبداً، فهو قد جعل القانون هنا ورفعه هنا.. فالذي يجعل، هو الذي يرفع، ما الذي يختلف عنده؟.. بالنسبة لله عز وجل إنّ جعلَ البرودة في نار إبراهيم، كجعل الحرارة في نيراننا هذه الأيام.. فجعل البرودة في موضع، والحرارة في موضع آخر، فلا يوجد اختلاف في هذا الأمر بالنسبة لرب العالمين؛ حتى نبخل على هذه الذوات المقدسة، ونسارع في إنكار ما ثبت من أنهم قاموا بما قام به الذي عنده علم من الكتاب.. والحال أن الأئمة -عليهم السلام- ليسوا من الذين عندهم علم من الكتاب، بل من الذين عندهم علم الكتاب.. وكذلك {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فالأئمة هم من أتم مصاديق الراسخين في العلم.. فالقضية ليست بهذه الغرابة، حتى ننكر هذا الإنكار البليغ!..
يقول شيخ الفلاسفة، ورئيس الحكماء ابن سينا: (كل ما قرع سمعك من العجائب، فذره في بقعة الإمكان، حتى يذودك عنه قاطع البرهان).. فمادام أن القضية ممكنة، فلماذا الإستماتة في الرد والنفي، وما شابه ذلك؟.. فلو تركنا وسياق الآيات والروايات التي تغلب على الإعتقاد وعلى الذهن السليم.. وهو ما يعتقده المرء، بأن المعصوم -عليه السلام- أكرمه الله عز وجل فيما أكرمه، بأن أُعطي له الحق في أن يتصرف في بعض مظاهر الطبيعة، بإذن الله، وبحكمةٍ بالغةٍ لغرض راجح.. وأما أن يكون له هذا الحق في قبال الله عز وجل، وبشكل استقلالي، فهذا هو الشرك بعينه.. ونحن نتبرأ من كل من يدعي، بأن للمعصوم مقاما تشريعيا أو تكوينيا، في معزل عن تفويض الله سبحانه وتعالى.
فإذن، إن الكرامة للواهب، فهو الواهب، وهو المعطي، يعطي الكثير بالقليل.. والمعصوم الذي وصل إلى درجة العصمة، والتفاني في خدمة الدين.. فرب العالمين يعلم بأنه سيقتل في طاعته، فإذا أُعطي بعض التصرف في شجرة وفي نبتة، أو حجر، أو ما شابه ذلك، فما الغريب في ذلك؟.. على المرء أن يرفع من مستوى تفكيره، وأن يطلب من الله عز وجل شرح الصدر، ليتسنى له تلقي هذه المفاهيم الإعتيادية، بشيء من التأمل، ومراجعة النصوص الشريفة في القرآن الكريم.. فعند ملاحظة سيرة الأئمة -عليهم السلام- يلاحظ بأن هناك تواترا مضمونيا في حياة أمير المؤمنين إلى حياة الإمام الحسن العسكري (ع)، وكذلك حياة الإمام صلوات الله عليه، فهناك روايات كثيرة منقولة في هذا الصدد.. فكيف للمرء أن يحكم على هذ الكم الكبير من الروايات على أنها باطلة، رغم أن هذه قضية قرآنية مسلمة واقعة للأنبياء وغير الأنبياء.
بقلم الشيخ حبيب الكاظمي