الموت ماهو هل هو وجود أم عدم ؟
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.. إن كلمة {تبارك} هي وصف لله تعالى، أي ذلك الرب هو الذي تصدر منه البركات الكثيرة.. ويجب أن نتأسى بالله عز وجل في هذه الصفة، فقد قال تعالى على لسان نبيه عيسى (ع): {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}.. فإذن، إن من صفات المؤمن، أنه وجود مبارك ومثمر أينما حلّ ونزل، وفي أي دائرة يوضع فيها، لأنه مرتبط بالله تعالى.. فالله تبارك، والمؤمن تبارك.. ومعنى ذلك أن الله تعالى تصدر منه الخيرات الكثيرة، وخيرات الله عز وجل لها أسباب.. والمؤمن المنتقى والمصطفى هو من مجاري بركات الله.. يقول الإمام السجاد (ع) في دعاء مكارم الأخلاق: (وأجرِ للناس على يدي الخير).. أي أنت يا رب كثير البركات، وبركاتك لها أسباب، فيا رب اجعلني سببا من أسباب نزول البركات!.. ولهذا فإن المؤمن يطمع في الكثير وفي المزيد.. والله عز وجل له بركات كثيرة في عالم الوجود، فما المانع أن يكون أحدنا -وإن لم يكن نبيا، أو وصيا، أو عالما، أو مرجعا- مجرىً لقضاء حوائج الخلق على الأقل.. فالله عز وجل يحب أن يفرّج عن هذا المؤمن، فيجعلك أداة لذلك.
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكٌُ}.. إن الله عز وجل له ملك واسع، وعبر عنه بتعبيرات مختلفة: فتارة يقول: {لَهُ الْمُلْكُ} وتارة يقول: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} وغيرها.. ولكن من أقوى التعابير في إثبات الملكية لله تعالى هو هذا التعبير: {بِيَدِهِ الْمُلْكٌُ}..أي ليس هو ملك، ولا مليك، ولا مالك، ولا له الملك.. بل بيده الملك، وكأن الملكية والحكومة والسلطة والسيطرة والقدرة بيده سبحانه وتعالى.. فمثلا يقال: فلان طبيب، وماهر في الطب، وله علم الطب.. ولكن فلان بيده علم الطب.. فهذه أبلغ في إثبات القدرة.. فإذن، لماذا يذهب الإنسان إلى الملوك، إذا اعتقد أن الله عز وجل هو المالك.. بل عليه أن يذهب إليه مباشرة، فهو الذي إن أراد سخر له قلوب الملوك، كما سخر قلب فرعون، لمن يقتله في النهاية.. فقد سُخر قلب فرعون في مرحلة –لمصلحة- لألد أعداء فرعون، ليكون لهم عدوا، في النتيجة، لا في الحال.. لأنه لو أن فرعون كان يعلم عاقبة أمر موسى، لذبحه كما ذبح الأطفال من قبل.
فإذن، إن القرآن الكريم يتكلم معنا كلاما عمليا هو يقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكٌُ}.. فالمؤمن الواعي الملتفت يستنبط الأمور الحركية من الآية في بيان صفات الرب.
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}.. لماذا خلق الموت؟!.. إن الموت في نظر الناس فناء، وعدم، وصيرورة إلى التراب.. ولكن القرآن يقول: لا، ليس كذلك، بل العكس، فقد ذكر الموت قبل الحياة -رغم أن الحياة واضح أنها مخلوقة- لأن الموت أشرف من الحياة، فهو انتقال للثمرة.. يا ترى أيهما أحب للطالب الذي بذل جهده في الدراسة: ساعة الامتحان وقاعة الامتحان، أم ساعة استلام الشهادة، وأخذ الجائزة من الأستاذ والمربي؟.. وعليه، فإن الموت بالنسبة للمؤمن، هو الانتقال إلى قاعة الاحتفالات الكبرى، لأخذ الجائزة من الله تعالى، فشوقه للموت أكثر من شوقه للحياة.. ولهذا فإن أمير المؤمنين (ع) لم يقل جزافا عبارته: (والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه).. لأنه يتوقع أن الناس لا تتقبل هذه الكلمة، فيقدمها بالقسم.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.. لم يقل: أيكم أكثر عملا؟.. فالحسن في العمل، أي إذا أردت أن تأتي بعمل، عليك أن تأتيه بأحسنه.. هب أن إنسانا له عبيد وجواري، فأمرهم أن يأتوه بالزهور من الحديقة.. فإذا بعبد يأتيه بطنٍّ من الزهور الذابلة مع الحشائش والأشواك، فإن هذا الكم من الزهور سيكون مصيره سلة المهملات!.. وإذا بعبد آخر يأتيه بوردة فواحة واحدة، تفتح قلب السيد من رائحتها، فيعتقه.. كما فعل الإمام الحسن عليه السلام، عندما جاءت الجارية بطاقة ريحان.. نعم، قد يأتي العبد يوم القيامة ولا عمل له.. ولكن عنده موقفا جميلا واحدا، فينجي.. إن بنات شعيب (ع) قدموا لله عز وجل عملا جميلا.. وربما كانوا عابدات قائمات.. لكن الله تعالى ركز على صفة وهي: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء}.. فهذا الوصف خُلد في القرآن الكريم.
وعليه، فإن على المؤمن أن لا يصيبه اليأس، إن لم يفعل الخيرات، ولم يتمكن من الإنفاق.. ولكن المهم هو أن يقدم أحسن الأعمال، وإن كان بسيطا، فإن هذا العمل يتقبله الله تعالى.. ففي سورة الدهر هناك إتقان للعمل، لا إكثار للعمل.. إن بعض ملوك الجور من بني أمية والعباس، فتحوا البلاد والأمصار، ولكن هل يتقبل الله تعالى العمل الذي لا يُقصد به وجهه؟.. ولكن علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وفضة الخادمة الملحقة بهم، قدموا خبزا في سبيل الله تعالى، فكتب الخلود لذلك.. وهناك في التاريخ كثيرون قد قدموا القرابين، فأم مريم قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.. فإبراهيم قدم إسماعيل للذبح، ولكن أم مريم قالت: إن كان هذا الحمل ذكرا فهو خادم لبيت المقدس، أي قدمت خادما للمسجد، لا أكثر ولا أقل، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور}.. أي أن الله عز وجل خلق سبع سموات طباقا، وكل شيء منسجم، وخاضع لأمره، وليس هناك أي خلل في عالم الخلق.. ولكن أنت يا ابن آدم!.. لماذا هذا الخلل في عملك وسلوكك؟ ..إن الله تعالى قد عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان، ووجوده كله خلل ..{قتل الإنسان ما أكفره} ما هذا التعبير القرآني اللاذع، إنه يدعو بالقتل!.. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ}.. لأنه لا يرى أي تفاوت في الخلق.
فإذن، إن الدرس العملي من الآية هو أن ننسجم مع الوجود، ولماذا نختلف مع المجرات، فهذه المجرات ممتثلة لأمر الله عز وجل؟.. فعلى الإنسان أن ينسجم معها ليصل إلى كماله المنشود.. (أتزعم أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر).
الشيخ المربي حبيب الكاظمي حفظه الله
رمضان كريم