الحجاب بين السلب والايجاب.
هكذا يقترح صديق حميم ان يكون عنوان الكتاب في طبعته المقبلة ان شاء الله، وكأنه يجد في العنوان السابق الذي عرف به الكتاب شيئاً من الحدة فهو يروم التلطيف منها بهذا التحوير، وهو يشفع رأيه هذا بأن في العنوان الجديد صناعة لفظية ترقق من جرسه، وهي صناعات يحبها بل ويغرم بها فريق من الأدباء الذين ينزعون الى القديم.
وانا اكبر لصديقي رأيه واعجب بملاحظته للفظ والمعنى، واستميحه المعذرة لأقول: سيرى القارئ في مطاوي البحث ومن مساق الاحتجاج فيه ان منابع الخلاف في هذه المسألة بين الاسلام وخصومه، وان البواعث التي حتمت على الاسلام ان يقول قولته في الحجاب انما هي امور تحوم حول العفاف ذاته، ورأي الاسلام الصريح ان الحجاب انما هو ضمان قانوني للعفة، يصونها عن الانزلاقات العاطفية التي توجبها فتنة العري، وعن الاعتداء الاثيم التي تمكن له مظاهر التبرج والخلاعة.
ليس عفاف المرأة وحدها، ولا عفاف الرجل وحده، بل عفاف المجتمع كله من الفه الى يائه، ولذلك فالعفاف في راي الاسلام والذي يأمر به ويسعى لتكوينه وتنميته ويحرص على الحفاظ عليه حق اجتماعي عام لا يختص بالفرد ولا ينتهي مع حدوده وليس من حقوقه لتكون له الخيرة في اسقاطه والتسامح فيه اذا شاء، والحجاب يتبع العفة في كل ذلك.
ولأعجل بالقارئ فأتلو عليه هاهنا بعض أيات الحجاب ليتضح له من دلالتها هذا الذي قلناه.
يقول سبحانه في الآية ـ 59 ـ من سورة الأحزاب « يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما ».
ما معنى ايذاء المؤمنات الذي ذكرته الآية الكريمة وفرضت للوقاية منه فريضة الحجاب؟ ما معنى ايذاء المؤمنات غير ان يعترض الطامعون سبيلهن فيسمعن او يرين من اقوالهم وحركاتهم ما يريب؟ ما معناه غير هذا التعرض للعفاف الاسلامي الذي يريده الله للمرأة المسلمة وللمجتمع المسلم؟ وسيأتي في بحوث الكتاب ما يوضح ذلك ويجلوه.
ويقول في الآية ـ 30 ـ وما بعدها من سورة النور: « قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن … ».
ذلك ازكى لهم واطهر، ازكى لهم جميعاً … لأفرادهم ومجتمعهم، وهذه الزكاة العامة الشاملة التي يجب ان تشمل المجتمع من اقصاه الى اقصاه امر الله المؤمنين ان يغضوا ابصارهم ويحفظوا فروجهم، وامر المؤمنات ان يغضضن من ابصارهن، ويحفظن فروجهن، ثم امرهن بالحجاب الواقي: بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن وإلا لمن تنتفي معه الريبة وتؤمن عنده الفتنة من النساء والأرحام القريبة والأصهار الدانية، والتابع غير اولي الاربة، والطفل الذي لم يظهر على عورة، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فيستهوى ضعيف ويشرئب طامع ويترصد حالات الغفلة، ويستخدم فنون الاغراء.
وحتى الآيات الخاصة التي فرضت الحجاب على ازواج الرسول (ص) فانها تتصل بذلك وتؤكده، فلهذا العفاف الاسلامي الذي يجب ان ينبع من مهد الرسالة ومن منزل الرسول ومن هدي ازواجه وبناته الطاهرات المطهرات ثم يشع علي أفاق المجتمع الاسلامي واقطاره، اقول: لتنشئة هذا العفاف وتنميته ولصيانته عما يخل ويخدش يقول الله سبحانه لمخدرات الرسول (ص) في الآية ـ 32 ـ وما بعدها من سورة الأحزاب: « يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى … ».
لا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وبماذا يطمع هذا الذي في قلبه مرض؟ ان طبيعته المريضة الملتاثة توهمه ان وراء اللين بالقول ليناً بالطباع فيتطلع ويطمع، ويحاول ويتعرض.
وإذن فالآية تتضمن حصراً لدائرة المرض وحسما لعدواه ووقاية من اعراضه وآثاره.
ومن اللفتات القرآنية الرائعة التي تسترعي الانتباه انه يسمي اللين بالحديث هاهنا خضوعاً فلا تخضعن بالقول، نعم فاللين بالقول خضوع يجب ان تتسامى عنه المرأة الكريمة، خصوصاً اذا كانت ليست كأحد من النساء.
ولتنشئة هذا العفاف وتنميته وصيانة حدوده عما يخل ويخدش يقول للمؤمنين في الآية ـ 53 ـ من السورة نفسها: يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا ان يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين … واذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن ».
الحجاب ضمان قانوني للعفة يقيها من ان تتردى او تضعف في نفس الفرد، ومن ان تزيغ او تهن في طباع الأمة، ودعاة التبرج، انما يدعون الى هذه السوأى وان كانوا ينكرون، وهذا الكتاب يلمح الى نتائج ذلك ويؤمي الى اسبابه.
وبعد فلست ارى في العنوان حدة بعد ان كان يحدد الموضوع الذي من اجله وقع الخلاف، ومن اجل البقيا عليه وضع الاسلام هذا العلاج، وما اصنع انا للموضوع ذاته اذا كان بطبعه يملي نوعاً من الحدة؟!.
اما الجرس الموسيقي الذي يشفع صديقي الأديب رأيه فيه فلا يكفى وحده سبباً للتحرير.
ـ 2 ـ
حديث الحجاب حديث مكرر، وقد اوشك اللسان بل واوشك القلم ان يمله لطول تكراره، وحكم العقل اليقظ الواعي فيه بين صريح لا لجلجة فيه ولا لبس ولا خفاء، وحكم الله باديء العقل وخالق الانسان ومدبر اموره وعالم طواياه ومصالحه ابين واصرح، ووطائد الحكم فيه جلية قوية، وروافده ومؤكداته اوفر واوضح، وما كان الانسان بعد هذا كله ليقف او ليتردد، وما كان له ان يتلفت او يتساءل.
ما كان له ان يأتي شيئاً من ذلك لولا هذه الوقدة التي تضطرم بها اعصابه يوم يراهق، ثم تبقى تتقد وتستعر، وتكبر وقدتها وينعقد امرها وتتكثر مطاليبها وتستمر مع الانسان طوال حياته اذا بقي معه عقل المراهقة، فلم يقو ان يضع للسعار حداً ولم يطق ان يجعل للمعضلة حلا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كان هذا الحديث بعد منتصف الشهر التاسع سنة 1958، وبعد مضي شهرين تقريباً من ثورة 14 تموز.
[2] الزمر : 48.
وغرائز هذا الكائن البشري نهمة جداً حين يلقى لها الحبل على الغارب، ومن خصائصها انها تشتد وتضرى ويعظم اشتدادها وضراوتها كلما تكررت الاستجابة اليها كالنار يقوى ضرامها كلما كثر وقودها.
ومن طبعها كذلك انها تستسلم للقائد البارع اذا اخذ قيادها برفق واوقفها عند حدها بحزم، كالنار إذ تمد بالوقود المعتدل وإذ توجه للغايات النافعة المجدية.
ما كان الانسان ليرد حكم الله وحكم العقل في مسألة الحجاب ثم يختط له خطوطاً لا تبتنى على القواعد الثابتة المتينة التي يجب ان تناط بها الاحكام وتقوم عليها الآراء، وخصوصاً في امثال هذه المعضلات التي تقلق مصير الانسان وتهدد سلامة المجتمع وتضعضع اركانه.
ما كان الانسان ليرتكب شيئاً من ذلك لولا هذه اللهفة الشديدة العنيدة التي تعصف به وتقلق مضجعه وتستعمل لبلوغ غاياتها ضروب الحيل وتستخدم شتى الأساليب، حتى اذا ملكت زمام المرء واحتكمت في امرء واستعبدت ارادته، استحالت جوعة دائمة لا تشبع وغفلة شديدة لا تنقع.
فما هذه اللوثة التي يسومون العقل ان يركبها في مسألة الحجاب، وما هذه السوأى التي يتطلبونها للمرأة باسم الحرية، وما هذه الهناة التي يرددونها ويكثرون من تردادها باسم المحاماة عن المرأة والدفاع عن حقوقها، ما هذا جميعه إلا بعض الوسائل التي يتخذها المسعور ذريعة لغايته، وإلا بعض الأساليب التي يحتال بها لطلبته.
انه ينادي باسم المرأة ليقترب منها، ويتظلم لها ليجتلب رضاها.
يصنع ذلك لتعجب المرأة به، وتطمئن اليه. وتقف الى جنبه.
والنساء جنس رقيق المشاعر مشبوب العاطفة ملتهب الاحساس (يغرهن الثناء) كما يصفهن الاستاذ احمد شوقي، ويخدعهن التظلم، ويفتنهن الانتصار.
يغرهن الثناء عليهن وان يكن المثني كاذبا، ويخدعهن المتظلم من اجلهن وان يكن المتظلم مداجياً، ويفتنهن الانتصار وان يكن المنتصر ظالماً.
بلى وانه لظلم … لظلم عظيم.
لظلم للمرأة، وظلم للحق، واتهام للعقل، واتهام لحكمة الله سبحانه، وافتراء على تشريعه، وتعد عن حدوده ان يقول قائل من الناس: المرأة مظلومة بفريضة الحجاب. ان يقولوا هذا القول ليوقعوا المرأة في الشبك الذي نصبوا، وفي الحفيرة التي حفروا؟!
لتقع المسكينة في ايديهم وبين انيابهم واظفارهم فريسة شهية الطعم ميسرة الاصطياد، انى اتجهوا وانى كانوا، في الشارع وفي السوق وفي المقهى والمطعم، وفي أي مكان ولجوا او ارادوا.
خاص او عام !!.
لتتحقق لهم هاهنا في بلاد الشرق وفي بلاد الاسلام اباحية وجدوها او حدثوا عنها في بلاد الغرب او في الدنيا الجديدة.
ان الشرق لن يخادع بعد بالاحلام والأوهام. وان المسلمين لن يغروا عن دينهم بعد ان علموا حق العلم ان دينهم هو مصدر قوتهم وموحد كلمتهم. ولن يحققوا اماني المستعمرين في بيوتهم. ولن يحتفظوا ببذور الاستعمار وجذوره في نفوسهم وقلوبهم وفي طباع فتياتهم وفتيانهم. انهم لن يفعلوا ذلك ابداً. وحسبهم تجارب اليمة قاسية عرفوها لحقائق الغرب فكيف بأباطيله !!.
ـ 3 ـ
قد تخادع الفتاة عن امرها فتبرز كما يشتهي الهاوون الغاوون (كاسية عارية)، ويقضي الشياطين منها لباناتهم بالمغازلة والمعايشة. وبالنظرات الخائنة المسعورة … الى آخر ما وضع للانطلاق من حدود. ان كانت للانطلاق حدود. وكانت لهذه الحدود نهاية.
ولكن الشاب لن يخادع عن امره ولن يختار فتاة كهذه لشركة حياته.
لن يختارها ابداً لشركة حياته وان افتنت له بضروب الاغراء … واذا اختارها لوجود حالات او اسباب تفرض عليه هذا الاختيار فانها لن تحتل من قلبه منزلة الزوجة الكريمة التي يجد السعادة بالسكون اليها.
انه يجد هذه الفتاة لقمة مبتذلة. والابتذال يسلب الكرامة وقد يزلزل الثقة.
انه يجدها لقمة مبتذلة له ولغيره على سواء. وهذا ما لا يرضاه في قرارة نفسه لفتاة يود ان تكون خالصة له دون من سواه كما تود هي ان يكون خالصاً لها دون من سواها … انه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً، ولن يعد الاقتران بمثل هذه الفتاة زواجاً سعيداً يسكن معه الحنين الطبيعي الى الزوج، ذلك السر العميق الذي اودعته القدرة الخالقة في طبيعة كل كائن من كل نوع، والذي بسببه تأتلف الأزواج وتتفاعل العناصر من جميع الأشياء.
انه لن يرضى ذلك في قرارة نفسه ابداً، وما تزال القيم الخلقية تعمل عملها في صدور الناس اجمعين.
قد تخدع الفتاة ويلبس عليها الأمر باسم الحرية واسم التمدين واسم الفن واسم الفن واسم الثقافة واسم العلم، واسم التقدم، ولا يضيق على الماكرين ان يدرجوا في القائمة اسماءاً كثيرة اخرى يطيلون بها العدد ويخدرون بها الفريسة.
قد تخدع الفتاة بهذه الأسماء وبما سواها من المغريات فتهتك الحجاب وتبرز الى الميدان … الى الميدان الذي اراده لها الرجل، وقال لها عنه انه ميدان الحياة، وما هو إلا ميدان الشهوات، وإلا فأية خاصة من الحياة الرتيبة السعيدة كانت تنقصها وهي في حجاب العفة الذي ضربه عليها الاسلام اذا وفيت لها الحقوق العادلة التي قررها لها الاسلام.
ويسير ان تصنع الفتاة ذلك ما دام الرجل يرغب فيه ويصر عليه ان يكون، فان الرغبة الأثيرة في نفس الأنثى هي ان تغري الرجل وان تثير اعجابه وتحقق رغائبه، على ان الفتاة وقدة كوقدة الفتى، لن تفترق عنه في شيء إلا في شدة الحياء، هذا الحجاب الخلقي الستير.
يسير ان يلبس الأمر على الفتاة، وان تغر بشيء من هذه السبل فهي محببة اليها … ولكن ماذا بعد ذلك؟
بعد ذلك ان يستغويها الغاوي، ثم ينفر بعيداً منها كما ينفر الوحش، أو «كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر. فلما كفر قال اني برئ منك اني اخاف الله رب العالمين[1]».
نعم ولا تزال المجتمعات ظالمة في بعض عاداتها فهي تدين الاناث بما لا تدين به الذكران.
ذلك هو منطق الغريزة المسعورة، والغريزة لا ضمير لها ولا وفاء، ولا ثبات لحكمها ولا دوام، وذلك هو حكم ازدواج الشخصية، فان المرء المستسلم لغريزته لا بد وان يتقمص في ذاته شخصيتين متباينتين:
حيوانية تؤثر الانطلاق، وهذه التي تبتدئ الشوط بخداع الفريسة لاخراجها الى الميدان.
و(ايديولوجية) تقدس القيم، وهذه تجيء في نهاية الشوط، وعلى يدها يتم نحر الفتاة.
الا ترى انصراف الشبان عن الزواج الشرعي هذا الانصراف الكبير؟ ان ما ذكرنا، يفسر لنا جانباً كبيراً منه.
لا يتزوج الشاب المتعلم لأن المجبة من الفتيات غير متعلمة في الغالب، فهو لا يرتضي الاقتران بها لجهلها، والسافرة منهن مبتذلة، فهو لا يترضي الاقتران بها كذلك لابتذالها، لا يتزوج الشاب لأنه لا يجد الفتاة التي يرتضي ثقافتها ويرضى سلوكها، وهو يصرف طاقته من طريقها المحرم اذا كان يستبيح ذلك … وإلا فهو الكبت، والعقد النفسية، والعصاب المضني المهلك، او الزواج غير المرضي وغير المنسجم، وهي الاضطرابات النفسية التي ستنتقل الى الاطفال فيما ينتقل اليهم من ميراث، وهي الجناية الكبرى المختارة أو غير المختارة على جيل محبب برئ؟؟
ـ 4 ـ
والفتى؟ هذا الذي كان له في فصول الرواية دور البطل الجبار المخادع، اتراه يمر هكذا سالماً من اخطار هذه التجربة؟
ان الوقدة الملتهبة المضطرمة في اعصابه هي التي الجأته الى اتخاذ الموقف لما ارخى لها العنان، وهي التي صورت له المجون تحرراً، واثبتت له التحلل رشداً، وهي التي اوحت اليه ان يقول كل الذي قال، وان يفعل كل الذي فعل، بلى، وهي التي وضعت له المقاييس الملتوية الملتاثة عن المرأة وعن حقوقها فدافع وناضل وكتب وخطب، واشتد وتحمس.
وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ كله لولا التحريض الدائم المتكرر الذي يتلقاه من الأنوثة الخليعة العارية في كل سبيل يمر به وفي كل مكان يدخله، وجوعة الطعام يزيد في سعارها منظر الأكل اللذيذ، وما كانت لبتلغ به هذا المبلغ لو انه كان صارم الارادة قوي الشكيمة، سديد التفكير، لو انه كان كذلك فملك الزمام، واحسن القيادة، واخلص في التوجيه، وما كانت لتبلغ به هذا المبلغ لو انه اسلم قياده لدين الله فاتبع هداه والتزم مناهجه ووقف عند حدوده.
ولكنه انطلق … ولكنه جمح … ولكنه اسلم قياد نفسه وعقله وكل مواهبه لغريزته المتوقدة المشبوبة.
والتحريض الذي يتلقاه في كل نظرة، والتشجيع الذي يناله في كل مغازله … فماذا ينتظر منه بعد كل ذلك؟.
ماذا ينتظر منه بعد ذلك غير ان تثور الغريزة فيه الى اقصى حدودها، وان تلتهب الى اشد وقدتها. وان تلتهم كل طاقاته وتستعبد جميع مواهبه ومشاعره، وان يغلب الجانب العاطفي منه على جانب التفكير فلا يعود صالحاً لبناء مجد. ولا لاقامة سؤدد ولا لاعلاء نفس. ولا لاسعاد أمة.
ميوعة وتحلل، وازدواج في الشخصية، وترهل في الخلق وضعف في الارادة، وخور عن احتمال العظائم من الأمور، ومسخ في معالم الرجولة.
هذه مواريث الاختلاط والانطلاق مع الشهوات والقاء الحبل على الغارب فيها، فهل يرغب الشاب منا ان يهبط الى هذا الدرك وان يحتم على مستقبله بهذا الخسار؟.
ودع عنك العقبى التي يتحدث عنها الدين وينذر بها الناس اجمعين، عقبى الجرأة على الله سبحانه بانتهاك حدوده وارتكاب محرماته.
ولقد رأينا بأبصارنا ما يصدق هذا القول في الغرب نفسه، في الغرب الذي ابتدع هذه البدع واختط هذه الخطط، ثم سار عليها وسار على اثره المولعون منا ومن غيرنا بالتقليد.
رأينا ما يصدق ذلك في فرنسا نموذج الغربيين في الخلاعة وقدوتهم في الانطلاق، حين ادركتها الحرب العالمية الثانية ولم تبق فيها الخلاعة من سمات البطولة والرجولة شيئاً يستحق التقدير، نعم رأينا هذه الدولة حين ادركتها هذه الحرب كيف طأطأت رأسها لأول لطمة ورفعت يديها عند اول هجمة، كيف رفعت يديها كلتيهما لتتقي وتستسلم في آن واحد، شيمة الخاشع الضارع الذي لا يقوى دفعاً ولا يملك نفعاً؟؟.
وما ظن القارئ بأمة اضطرت الى ان تعفي خمسة وسبعين الفاً من جنودها عن الخدمة، وهي في اشد المآرق وفي امس الحاجة، في السنتين الاولتين من سني الحرب الأولى، اضطرت الى ان تعفي هذا العدد الضخم من الجنود وتبعث بهم الى المستشفيات لأنهم اصيبوا بمرض الزهري؟ وما ظن القارئ بأمة يبتلي منها بهذا المرض وحده مأتان واثنتان واربعون جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة. ويموت منها ثلاثون الف نسمة بهذا المرض وتوابعه في كل عام؟ وما ظن القارئ بأمة بلغ تمكن الشهوات فيها مبلغه المفرط حتى اوهن الأعصاب منها وخلخل الأركان، وكان ان يأتي على القوى في الأجساد، وحتى اضطر حكام الجيش فيها ان يخفضوا من مستوى القوة والصحة التي تفرضه الأنظمة في متطوعة الجيش.
اضطروا ان يخفضوا من المستوى الصحي للمتطوعة في كل بضع سنين لأن الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط المقررة يقلون عليممر السنين، وهي لا تزال علي هذه الضرورة المتزايدة وهذا التدرج في الضعف منذ اوائل القرن العشرين.
ما ظن القارئ بأمة هذا رصيدها الصحي للجيش الذي تريد منه حماية البلاد ودفع العدوان؟!
اما الحياة العامة فيها فيقول عنها (بول بيورو) العالم الاجتماعي الفرنسي المعروف:
«ان من اراد من الباحثين ان يطالع حياتنا المدنية من خلال هذه النماذج للحياة التي لا يزال يعرضها كتاب مسرحياتنا منذ ثلاثين أو اربعين عاماً فلا جرم انه يستنتج ان جميع الأزواج المتزوجة في مجتمعنا قوم خونة متجردون من الوفاء اللازم للعشرة الزوجية فيكون كل زوج اما بليداً غافلا أو يكون لزوجته بلاءاً ونكبة، واما الزوجة فأحسن خصالها ان تكون في كل حين متبرمة من زوجها وتكاد تميل بهواها عنه الى غيره»[2].
نعم وهكذا تفعل الميوعة وهكذا يصنع التحلل وهمود النخوة وخمود الجذوة.
طأطأت للذل والاستكانة دولة كانت تزعم انها ثانية دول الدنيا في القوة واولاها في التمدين، ولم تعدل من موقفها جيوش جرارة من حلفائها تخف لنصرها وادوات جبارة تقف في ظهرها، فهل نطمع في تجربة اكبر من هذه التجربة؟ وستكشف الليالي عن تجارب وتجارب تذكر للعبرة وتسجل للتأريخ.
ستكشف الأيام ذلك ولا محيد، وسيراه الراؤون، فان غاية الشيء لا تنقطع عنه، ولا بد من ظهورها في اعقابه متى تمهدت لها الفرصة وصحت لها المناسبة.
وليست الكارثة كارثة فرد أو افراد، ولو كانت كارثة فرد لأمكن الاستغناء عنه، بل ولوجب ان يستغنى عنه كما يجب قطع العضو الموبوء عنا لجسد السليم.
انها ليست كارثة افراد ولكنها كارثة امة، وكارثة الأمة ماحقة ساحقة لا يمكن التغاضي عنها ولا يسوغ التساهل فيها.
ـ 5 ـ
والأسرة؟
لقد عرفنا العقابيل التي تنالها من هذا الداء الوبيل.
عرفنا انها ستكون قلقة النشوء قلقة الاستقامة.
فالشاب لا يرغب في ان يبتني اسرة، لأنه لا يجد الصفات التي يعتبرها في الزوجة الصالحة والتي يعدها في قرارة نفسه شروطاً للتزويج السعيد.
لا يتزوج الشاب لأنه لا يجد الفتاة التي يبتغيها ويرتضي ثقافتها ويرتضي سلوكها.
نعم ففتاة احلامه غير فتاة شهواته.
هذه للمتعة العابرة وللسلوة الحاضرة وللتلهي القصير الموقوت، اما تلك فللمجد يورث وللذكر يبقى، وللحياة تهنأ، وللسعادة تكمل وتدوم، وللخلق العالي والسمات الكريمة تكتسب وتعطي وتتفاعل وتنسجم، وللسكن الروحي الدائم، وللحب المكين السعيد، وللذرية الطيبة تنبت في المغرس الطيب، وتغتذي من الصفات الطيبة، وتربو وتتربى في الحجور الطيبة المهذبة.
لا يجد الشاب هذه الفتاة الصالحة فيمن يعرف من النساء، ولذلك فهو يفر من التزويج، لأنه يجده وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي، يفر من التزويج، لأنه يجده وثاقاً يقرنه بمن لا يرتضي، يفر من التزويج بعيداً بعيداً ويعتذر لمن يسأله عن سبب فراره بسني التعليم وسني التجربة في المهنة وسني جمع الذخيرة لهذه الشركة الدائمة، يعتذر بهذا وبأمثاله لمن يسأله، وانه ليعلم حق العلم ان فراره من التزويج لأمر آخر لا يتصل بشيء مما يقول، ولو انه وجد فتاة احلامه لما وجد مساغاً لكل ذلك او لما وجد مساغاً لبعضه على ادنى التقارير.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحشر : 16.
[2] يراجع فيما يتعلق بهذا الفصل ص 105 ـ 113 من كتاب الحجاب للاستاذ ابي الأعلى المودودي.
وقد تضطره الحال، وقد تضطره التقاليد، وقد يضطره الاغراء فيختار لنفسه زوجة ويبتني له اسرة، ولكنه يفعل ذلك ليخلق لنفسه ولزوجته المسكينة ولأطفاله الأبرياء الأطهار مشكلة عصية الحل بالغة الآثار عميقة الجذور.
نعم فستخمد الثورة، ويزول الاغراء وتخف المجاملة، وسيحاول جاداً ان يوقف زوجته عند الحدود التي يراها ويفهمها والقيم الحقيقية التي يقدسها، وسترى الزوجة ان ذلك منه يحد لحريتها، فانها لم تعتد هذا النوع الذي يؤمي اليه من السلوك، ولم تألف هذا الضرب الذي يفرضه من القيود، وستغرس النبتة عند اولى محاولة منه واولى مخالفة منها، وستنمو النبتة وتربو وتكبر وتثمر، وتجتني الأسرة ثمرها مراً كالصاب، لاذعاً كالنار، فاتكا كالسم، وسيزداد الأمر تعقداً كلما طال المدى فازداد هو في الاصرار وازدادت هي في العناد.
والأطفال الابرياء؟
انهم سينشأون في منزل لا طمأنينة فيه ولا قرار، وفي اسرة لا سكون لها ولا انسجام، وبين قلوب لا تعادل بينها ولا وئام، بل وسيرثون القلق والعقد والعصاب النفسي من (الجينات) التي تتمازج بالتلقيح، وسيتلقونها دروساً عملية مكررة من نظرات الشزر بين الأبوين ومن الآهات الخفية والحركات القلقة عند اجتماعها، ومن كلمات الشجار، وابتسامات الهزؤ في احاديثهما اذا هما لم يتجاوزا هذه الحدود.
سيكون هذا ميراث الأطفال الابرياء من جرثومة التلقيح، وسيكون هذا غذاءهم مع الرضاع ومع الطعام، وقبل الرضاع والطعام، وستكون على هذا تنشئتهم مع الايحاء والتلقين، فماذا ينتظر من مستقبلهم؟
ما هذا؟.
لقد ذهب الابتذال بمناعة الفرد وبمناعة الأسرة، وخلخل الضوابط والروابط حتى لا قاعدة ولا مرسى !.
ويهون الأمر ويخف وقعه لو ان جميع نوازع الانسان وجميع هواجسه ومشاعره اصطلحت على ذلك كالحيوانات الطليقة مع الهوى المرسلة مع الغرائز، اذن لأصبح الانطلاق الى حد أو لا حد امراً طبيعياً لابن آدم، ولاستراح بذلك من التناقض والانحلال والقلق والآلام والعقد المضنية المهلكة … ولكن:
هيهات ان يعود هذا المخلوق حيواناً بعد ان خلق انساناً يفكر ويتدبر، ويزن ويقارن، ويستقرئ ويجرب، ويتحدى الطبيعة ويبتكر الأعاجيب ويكتشف الغوامض ويستنطق الصوامت، وهيهات ان تصطلح ركائزه كلها على الانطلاق فقد اودعت في نفس هذا الكائن ركائز عديدة متنوعة الاتجاه متخالفة الهوى، ولن يوفق ما بينها سوى الاعتدال.
سلوا الطب عن عوارض التبذل، وسلوا علم النفس عن اخطار المراهقة، سلوه عن العقد التي يوجبها التحلل، وسلوه عن اوباء الاندفاع مع الهوى وعن مخالفاتها في نفسية المجتمع وفي صلات افراده، وسلوا علم الاخلاق عن قيمة الاعتدال وقيمة الحفاظ وضبط النفس، ودعوا الذين لمن يطيب له ان يسأل الدين.
ـ 6 ـ
وفي الرجال مخدوعون مغرورون ايضاً كما تخدع الفتاة عن سترها وكما تغر.
هؤلاء هم الآباء المساكين يخادعون عن بناتهم ونسائهم واعراضهم فيدفعون بها الى التيار مخلصين راغبين !.
وبدهي ان باعث هؤلاء الى صنيعهم هذا، شيء غير النهم الجنسي الذي تحدثنا عنه من قبل. ان هؤلاء مخدوعون باسم العلم وباسم التقدم والحضارة. بهذه الأسماء الضخمة الفخمة التي يكررها انصار الخلاعة ومقلدة الغرب، وليس من الصعب على احد ان يستخدم العناوين الهائلة أو المحببة وفوق ما يريد.
طلاء من اللفظ يزوقونه ويرددونه، ويمنعون في تزويقه ويكثرون من ترداده لأنه ذريعتهم الوحيدة الى ما يبتغون، كأن اللفظ وحده دليل صواب الفكرة وان خوى من المعنى، وكأن الدعوى بمجردها هي برهان ثبوت نفسها وان خلت من الصدق !!.
ما هذا العلم الذي يفرض على الفتاة ان تتعرى وان تتبذل؟! وما هذه الحضارة وهذا التقدم اللذان يحتمان على الآباء انيجردوا بناتهم، ثم يخرجوهن الى الشارع. الى النظار … الى المتفرجين المتفرنجين؟!.
ما هذا؟ وما حقيقته؟.
انه شيء لا يفهمه حتى العلم ولا تفقهه حتى الحضارة ولا يعرفه حتى التقدم !!.
العلم فريضة دينية، وفريضة اجتماعية، وفريضة نفسية، وفرضها على الرجل والمرأة وعلى الفتى والفتاة سواء بسواء، كل على قدر طاقته، وكل حسب استعداد مواهبه، والاسلام احرص الأديان على ذلك واكثرها اصراراً عليه وحثاً على تحصيله، ونصوصه على ذلك مشهورة مأثورة، وقد جرى اكثرها لشهرته مجرى الأمثال، وليس هذا موضع جدل ولا مساغاً لشك.
ولكن: ايجب ايضاً ان تتحد معاهد التعليم وتختلط، ليجب خلع الستار والعذار؟!.
لم لا تؤسس لفتياتنا معاهد صحيحة تعلمها العلم وتصون لها الحياء والكرامة في وقت واحد؟.
ولم نفرض عليها الاختلاط في المعهد لنسأل، محقة، عن الفرق بينه وبين الاختلاط في الشارع وفي المجمع؟!.
ولعل الاختلاط في المعهد انكى ضراراً وامضى اثراً من الاختلاط العام، ذلك ان معهد التعليم يضم الصفوة من رجال الغد وهم معقد الأمل ومناط العمل، فانتشار الداء فيهم شلل للاعضاء العاملة في المجتمع وابادة للطاقة القوية في الأمة.
والتقدم والحضارة، هل معناهما التقليد البليد لعادات الغرب والاتباع الأعمى لخطواته والرجع المردد لنغمائه، على غير تمييز بين النافع منها والضار، وبين المعوج والمستقيم؟
من القبيح بالأمة ان لا تكون مستقلة بذاتها حتى في هذه البداءة، وحتى لا تفكر إلا بعقول غيرها ولا تشعر إلا بشعوره ولا تنظر في مصالحها وصوالحها إلا بمناظره !!.
من القبيح بالأمة ان تكون امعة الى هذه الحدود ! والذي لا يستطيع ان يفكر لنفسه ولا يستطيع ان ينتزع عوائده من صميم حياته ومن ملابسات مجتمه كيف يؤمل به ان يسمو الى ذروة او ينهض باعباء؟!.
والتقليد معرة كبيرة شديدة، فمعناه الصريح هو الجهل، ومرده الواضح هو الضعف وفلسفته الغريبة هي الصغار وعدم الاستقلال، وهو في المجتمع اشد نكاية منه في الفرد.
وقد لا تلام الأمة عليه اذا كان تقليداً فيما ينفع، فان من العقل ان يفيد الانسان من تجارب غيره، ولكنها تمتهن وتحتقر ويسخر منها ومن سلوكها اذا كان تقليداً في ما يضر، وتكون اكثر استيجابا للمهانة والزراية.
والسخرية اذا كانت تعتقد مع ذلك ان هذا التقليد ضروري لها ولحياتها، لأنه جهل مكرر، وضعف متمكن، وصغار ذاتي قاتل، وهذه هي الادواء الأولى التي تفتك بالامم وتقتل معنوياتها وتحكم عليها بالدمار وعلى امجادها بالاندثار.
والتبرج خدعة من خدع المستعمر الظالم ينشد منها اقصاء المسلمين عن دينهم وزلزلتهم في عقيدتهم، وتنكرهم لشريعتهم، ودين الاسلام هو الحرب الأول على الاستعمار، وهو القوة الكبرى التي لا طاقة له بها وهو الرباط الوثيق الذي يجمع قلوب اتباعه علي الأخوة ويؤلف بينهم على العقيدة، ويكفل لهم بالنصرة، ولقد جرب المستعمر ذلك بنفسه حين اعد جميع قواه واستحث جميع اعوانه وشن على الاسلام حروبه الصليبية التي استمرت مائة عام.
اجل ان دين الاسلام يأبى الاستعمار بشتى الوانه، ويحاربه بشتى طرائقه ويعمل جهده لاقتلاع جذوره وابادة بذوره، ويعد له ما استطاع من قوة، ويجهز ما امكن من عدة، ويجند الضمائر والعقول والنفوس الكفاحه قبل ان يجند الاجسام والقوى، فلا بد للمستعمر من حربه في نفوس اتباعه وعقولهم، ولا بد له من كفكفة سلطانه على قلوبهم وضمائرهم اذا كان جاداً في استعمارهم.
والتمادي في الشهوة امر محبب للكثير من الناس، والحد منها عملية لا تروق للكثرة من هذا الكثير، ومن خصائص الدين مطلقاً ـ ودين الاسلام على الخصوص ـ انه يربأ بالانسان ان تستبده الشهوة وان تستنفذ كل طاقاته وتستغل جميع نشاطه، وانه يضع للمسألة حلا عادلا فاصلا ينصف فيه هذه الغريزة من الانسان ولا يحيف فيه على ما سواها من الغرائز والركائز التي ركبت فيه.
وبذلك سنحت للمستعمر الفرصة التي ينتظر، وتهيأ له المجال الذي يطلب، فمهد للخلاعة في الأوساط المسلمة، ومكن للشهوات فيها ان تنطلق، وجعل الاختلاط حتى في معاهد العلم واشاع انها الحرية وانه التحضر والتقدم.
صنع ذلك لأنه يدري حق الدراية ان الشهوة متى استمكنت في النفوس ثقل عليها ظل الدين، وتمنت زواله، ورغبت في كفكفة سلطانه، ولقد اشرف على الغاية وأوشك ان يحصل على الثمرة، لولا ضربة الله … لولا ضربة الله التي سينالها كل من يتنكر لدينه، ولولا قدرة الله التي تعهدت بحفظ كتابه.
الحضارة والتقدم تطور في الثقافة وتمكن في العلم وارتقاء في الصناعة وارتفاع في الانتاج والعمران، والحضارة والتقدم علو في الأخلاق واستقامة في السلوك وصدق في المعاملة وقوة في الحفاظ واعتصام بالكرامة، والحضارة والتقدم التفاف من الامة حول مبادئها القويمة واستمساك منها بدينها الحق وقيمها العالية وجميعها لأسباب القوة وتوكيدها لوشائج الأخوة وتعزيزها لمظاهر التضامن.
وليس من الحضارة ابداً ولا من التقدم ولا من العلم ولا من المدنية، الا تضاع بالموازين والهبوط في القيم والترهل في السلوك والتملق للشهوة.
ليست هذه الاشياء من الحضارة ولا من التقدم ولا من العلم ولا من المدنية في شيء ابداً وان اتخذت اسماءاً أخر وتحلت بسمات اخرى فان الواقع لا تغيره الأسماء ولا السمات.
ـ 7 ـ
ومن عجيب حال بعض المسلمين اليوم انهم اصبحوا ينظرون الى التبرج على انه ضرورة يقتضيها تطور الحياة وينظرون ـ تبعاً لذلك ـ في حكم الاسلام بوجوب الحجاب على المرأة على انه موطن ضعف في التشريع الاسلامي ولذلك فانهم يرون وجوب تغيير هذا الحكم تبعاً للتطور.
ومن اجل ذك فبعض الكتاب المسلمين يقف من هذا الحكم موقف المدافع المعتذر المتوجس من لصوق تهمة، المحاذر من عروض وصمة، فهو يتاول النصوص ويتجوز في الحقائق ويتنكر للتفسير ويتمحل في التاريخ، ويأتي في ذلك بما يمكن وما لا يمكن ليقولها صريحة فصيحة لا غمغمة فيها ولا خفاءة: ان الاسلام لم يأمر بحجاب وان التاريخ العربي والاسلامي لم يكن يعرف الحجاب.
ومن اجل ذلك فبعض المتسلطين من المسلمين يحاولون ان يخمدوا صوت الاسلام بوجوب الحجاب حتى انهم لو استطاعوا لحذفوا آيات القرآن التي تدل عليه !.
ولنتساءل جادين:
هل نظر هؤلاء كمسلمين أو غير مسلمين في آيات الكتاب الكريم ونصوص السنة المطهرة في الحجاب فوجدوها غير دالة ولا مشيرة؟.
هل درسوا ركائز حكم الاسلام بوجوب الحجاب فايقنوا ان هذا الحكم خلو من المصلحة بعيد عن الحكمة؟.
هل قارنوا بين حكم الاسلام وحكم غيره في هذه المشكلة فرأوا ان حكم غير الاسلام احرى بالقبول واحق بالترجيع؟.
لا. لا. انهم لم يتكلفوا شيئاً من ذلك ابداً ولكنه الضعف النفسي امام المغريات، وامام إدعاءآت الغرب ودعاياته ثم الاستسلاف لمقاييسه التي وضعها في المرأة ونظرته الخاصة لعلاقة الرجل بها وعلاقتها بالرجل.
نعم انه الضعف النفسي امام مغريات الغرب وامام ازيائه الحديثة المثيرة ودعاياته المشوقة واساليبه في الاستهواء والاستدراج، وامام قوته الهائلة وقد توهم الضعفاء ان للتبرج دخلا كبيراً فيها، وامام تقدمه في ميادين العلوم، وقد ظن الجاهلون ان للخلاعة اثراً عظيما فيه.
انه الضعف النفسي وكثيراً ما يكون الضعف النفسي وحده هو الدافع الأصيل لانسان الى اعتناق مذهب من المذاهب أو اختيار رأي من الآراء ثم يطفق بعد ذلك يلفق الحجج ويتكلف الشواهد على صحة اختياره يستر بها ضعفه، ويقنع أو يغالط بها عقله.
وإلا فأية حجة تستحق الاحترام اقاموها وهم يوجبون التبرج، واي نقد يستحق التقدير اوردوه وهم يمنعون الحجاب؟ اية حجة قوية واي نقد صحيح تمسكوا به وهم يرون هذا الرأي، ويمنعون فيه الى حد الافراط غير ترديد اقوال الغرب المبتنية على مقاييسه في المرأة وعلى نظرته للعلاقة بها، وكان عليهم ان ينظروا في هذه المقاييس وفي هذه العلاقة بما هم مسلمون او بما هم مجردون متحررون.
اما ان يأخذوا المقاييس والنظرات والدعاوى كما هي دون تحقيق ولا تمحيص ثم يحملوها كذلك على الاسلام أو يحملوا الاسلام عليها وان ابت نصوصه وانكرت قواعده واحتج تأريخه فهذا هو موضع الغرابة وهذا هو برهان الضعف.
ولنقف علي مجمل من هذه المقاييس لنعرف مبلغها من الصحة وقوتها على اثبات هذه النتائج الضخمة.
بقلم //محمد أمين زين الدين
تحياتي واحترامي لكم جميعا