اللهم صل على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم وارحمنا بهم يـآكريم
السلآآمُ عليكم ورحمة الله وبركـآته:
من أبرز المسائل التي تضمنتها أدعية شهر رمضان الكريم (
العتق من النار ) وهي من أهم المسائل
التي نحتاج لفلسفتها ومعرفة المقاصد الطلبية الحقة من ورائها , وكل طلب يتوجه به الإنسان المؤمن
السالك إلى الله عز وجل يحتاج أن يكون مسبوقا بالمعرفة القصدية لهذا الطلب وهذه المسألة حتى يمكن
للإنسان أن يطلب ما يشاء من الله وهو يعرف ماذا يريد فعلا وليس مجرد دعاء بين يدي ويجب أن أدعو به.
بالطبع يجب أن لا يبخل الإنسان على نفسه وعلى أهله وجميع من وجب حقه عليه بالدعاء وطلب حوائج الدنيا
والآخرة , لكن من الأجمل للسالك أن يبتدئ ويقدم ما هو بحاجته ليسأل الله أن يعطيه , ذلك لأن الإنسان في عادته
تكون نظرته لمهمات الحياة وترتيبها قاصرة جدا عن نظرة الله سبحانه وتعالى في مصالح العباد ,ولذا فإن منهج
مدرسة أهل البيت عليهم السلام في الدعاء عبر الأدعية المتنوعة المطالب والمقاصد يقدم نموذجا للمدرسة
المتكاملة المهذبة لجميع جوانب الحياة وهي بحق مدرسة التكامل التي من خلالها يرقى الإنسان بروحه إلى
أعلى درجات الكمال .
وعندما تختلف درجات الكمال وتتفاوت يتوجب بطبيعة الحال الاختلاف والتنوع في تقديم المسائل والمطالب .
الأمر الآخر في هذا الجانب هو مسألة التوظيف الصحيح لدلالات العبارات التي تحويها الأدعية المباركة , توظيفا
ينسجم مع المقاصد التي يحتاجها كل طالب حاجة من قبل الله سبحانه وتعالى .
فعندما ندعو
( اللهم اعتق رقابنا من النار ) ,وخصوصا في شهر الله الكريم , باعتبار التركيز الدعائيّ على هذا
المضمون وهذا المقصد في أغلب الأدعية الرمضانية
,وكأنما يمثل ذلك حالة العهد واللقاء بهذه المطالب التي
يحتاجها كل إنسان مؤمن . هنا يمكن التأمل : لماذا ندعو كل سنة بهذا الدعاء؟!
ألم تعتق رقابنا العام الماضي والأعوام التي سبقت ؟
في علوم البلاغة العربية يقولون أنه قد يذكر الكل ويراد به الجزء مثل قولهم : (سلمتُ على القرية ), ويقصد
أنه سلم على أهل القرية . وقد يذكر الجزء ويراد به الكل مثل الدعاء ( أعتق رقبتي ) , والمقصود عتقي
بالكامل لا فقط عضو الرقبة من جسمي .
وبالطبع في مثل هذا الدعاء نحن نريد أن نعتق كلنا لا أن نعتق أجزاء منا,لكنّ هذا المطلب قد لا يتحقق فورا بل
قد يتحقق بشكل متجزئ ,والسبب في ذلك يتعلق بالإرادة الروحية التي يحملها كل إنسان , لأن الدعاء لا يعني
تحريك اللسان والشفتين ولا حتى البكاء بقدر ماهو يحكي منهجا عمليا تحركيا من أجل تحرير هذا الإنسان من
قيود ذل الآثام والمعاصي وسلاسل نيران جهنم .
فإذا كانت الإرادة لا تزال محبوسة ولم تنطلق في ميدان السلوك العملي
فإن تحرير الإنسان سيكون بطيئا جدا , ولربما لا يتحرر.
يقول الشيخ جعفر المبارك حفظه الله في إحدى محاضراته
" أعتقنا من النار " فعلا قد يكون الله سبحانه وتعالى
قد أعتق في السنة الماضية يدك , وهذه السنة أعتق عينيك
, أعتق يدك يعني خضعت يدك لأوامر الله , إذا رأيت
أن يدك لا تظلم وعينك لا تظلم فاعلم أن يدك وعينك قد خرجتا من جهنم
, وإذا رأيت أن لسانك لا يعصي الله فاعلم
أنه قدر خرج من جهنم , أي جزء منك يخرج من جهنم يعني أطاع الله
, وإذا كنت كلي ذاهب باتجاه جهنم بعقلي
وقلبي وخواطري فما الذي يعتقني غير الله.
الله يعتق مني جزءا جزءا حتى يخرجني بالكامل من جهنم , لذلك خط السير
والسلوك لا يتكلم بالخيال , الإمام علي " ع"
في وصفه للمتقين يقول : ( فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ,
وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون )
هم يذبهون إلى الجنة حتى يتنعموا
, وإذا تعبوا ذهبوا باتجاه جهنم , يقلبون قلوبهم بين الخوف والرجاء).
إذن هذه هي فلسفة ( أعتق رقابنا من النار ) ,
يجب أن يرى الإنسان نفسه في النار , نار الرذائل , والآثام ,
والمعاصي , كبيرها وصغيرها ,نار جهنم التي ما تشتعل إلا بأعمال ذلك الإنسان
, بعدها يحاول أن يعتق نفسه حتى
يخرج كله من النار ولا يبقى منه جزء واحد .
نسأل الله أن يعتق رقابنا من النار بحق هذا الشهر العظيم .