بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرينها هي ذي الدموع تجري كماء النهر وها هي ذي القلوب تنزف بجروح الألم
وها هي ذي النفوس تزفر بالحزن وها هي ذي الألسن تلهج نادبة
الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
الذي استشهد غيلة بسم نقيع دسه إليه المنصور الدوانيقي حسداً وحقداً وغيظاً عليه
لمكانته المرموقة ودوره العظيم في بث روح الإيمان والخلق الكريم
في نفوس الأمة مخالفاً كان أم مؤالفاً بل في نفوس الأديان البعيدة
عن نهج الإسلام لتنجذب إلى تلك الصفات الكريمة
وتنهل من ذلك المخزون العلمي والمنبع الفائض بالخير للقريب والبعيد ..
نعم أيها الأحبة
في هذه الأيام الأليمة نتوقف بحزن وحسرة
على تلك الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى التي غيبت
الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن هذه الحياة شهيداً محتسباً صابراً على البلاء مفوضاً أمره إلى مولاه
قد هانت عليه الحياة في سبيل هداية الأمة من الضلال ..
فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل على من تجرأ
على هذا المصباح الزاهر محاولاً أن يطفئ نوره
من خلال تلك الجريمة التي أدمت القلوب
وأدمعت العيون وأحزنت النفوس فأظهرت ما تحمل من حزن وألم بالعزاء نادبة ولاطمة وصادحة بزفرات الفراق
..
أحبتي الأفاضل
في هذه الدقائق المعدودات
اتوقف معكم عن مقتطفات من سيرته الشريفه نتحدث بشكل مختصر عن لمحة من حياته الشريفة
نحن أمام بحر طامٍ عمّ جوده وبدرٍ سام أشرق وجوده، نحن أمام شمس المعارف
الكبرى وأستاذ الأئمة وقائد جميع الأمة، الذي لم يُرَ إلا صائماً أو قائماً
أو قارئاً للقرآن.
نسب أزهر في التاريخ فحول الصحاري إلى أزاهير، وحَسَبٌ
تجاوز في علوّه
المريخ فسطعت منه المجامير،
وعزمٌ فلّ به حراب الدهر وحلم ملأ به إهاب
الفخر،
وبحر بعيد قعره، زخّار موجه، يفيض عطاءً دون توقّف،
حتى شهد بفضله
القاصي والداني مسحت شمس هُداه
دياجير الجهل وأضاءت تعاليمه كل حنايا الروح
والعقل.
منهله عذب لروّاده، ومنتج لقصّاده. يزدحم أهل الفضل في رحابه،
ويشرفون
بتقبيل أعتابه. والكل يرجعون بطاناً مرويّين يشهدون بقوة حجته
وشدة عارضته،
يذعنون له تسليماً واطمئناناً، ويعترفون بمرجعيته تقديراً واحتراماً.
لقد مني الإمام الصادق (عليه السلام) بعصر أقلّ ما فيه أنه
عصر الاتجاهات
غير المتجانسة فكان (عليه السلام) يجمع بين المتفرقات ويفرق بين المجتمعات.
مدرسة سيارة ولكنها شاملة ومستوعبة لكل ما تحتاجه الأئمة
في حاضرها ومستقبلها معبّراً عن طموحها وتطلعاتها.
والده بقر العلم بقراً وأورثه ما عنده من أدب كأحسن ما يرام،
حتى بزّ
الأولين والآخرين عدا ما استثني، فإن الله تبارك وتعالى
سخّره لإكمال
السلسلة وقيادة المرحلة. يهدي التائهين من جانب،
ويعلم الجاهلين من جانب
آخر. يخاطب الناس على قدر عقولهم
ويؤدبهم بحسب استعدادهم، يظهر على
الزنادقة فيطبّعهم،
وعلى الفياهقة فيطوّعهم. وكم نصبوا له المكائد ليوقعوه
فيها ولكنه كان أحذر وأجرأ من أسد.
يعالج الأمور بحكمة علي وصبره، وقوة الحسين وجهاده، له
من جدّه النبي محمد
(صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى والقدرة الحسنى
، لم تغرّه بهارج الدنيا
وزينتها، ولم يجرِ إلى بعض مزالقها.
وأثبت أنه الأعلم والأفقه، بل الأستاذ
الأوحد في تلك الدنيا التي كثر فيها العلماء وكانوا ظاهرتها الأبرز.
والإمام الصادق (عليه السلام) استطاع بواسع علمه ورحابة صدره
أن يستوعب
الجميع ويعلم الأئمة المتأخرين، كأبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد، ويثبت
أستاذيته للمدارس الفكرية والجامعات العلمية كلها،
حتى أصبح حديث الناس
وشغلهم الشاغل. ولشدة إقبال الناس إليه
وتتلمذ العلماء عليه وتأسيسه
المدارس وتخريجه العلماء نسب المذهب الجعفري إليه،
وانعطف الموالون لأهل
البيت إليه مع أنه جزء من السلسلة المباركة.
لكن الوضوح الذي حدث في عصره
والانتصار الثقافي الكبير
الذي حققه جعل الاتجاه الثقافي والإعلامي يميل
نحوه بالخصوص
. وبعبارة صريحة كان ينشر مذهب رسول الله (صلى الله عليه
وآله)
بصِيَغ متطورة كحاضر سعيد ومستقبل اجتماعي متقدم.
إن الأقوال والنعوت التي تُبرز دور الإمام الصادق (عليه السلام)
وتظهر علوّ
مقامه وسموّ فضله قد صدرت عن كبار علماء الإسلام
من شتى الفرق والمذاهب،
وما زالت آثارها باقية حتى الآن،
والحوزات العلمية اليوم هي امتداد لتلك
الحوزة العلمية العظيمة، ومن تراث ذلك الإمام الهمام.
والإمام الصادق هو صاحب مدرسة عظيمة جداً مدت جذورها
عمق التاريخ وبقيت
مباركة طيبة، أصلها راسخ في الأرض
وفروعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين
بإذن ربها.
وصاحب هذه المدرسة وحده موسوعة علمية، تقف وراء
طاقاته التكوينية المتينة
أسباب جليلة ساهمت جميعها في شحن المعارف الواسعة
إلى فكره المركّز،
وإرادته المعتصمة بالمران الأصيل.
وكانت تلك المعارف والطاقات المباركة كلها تصب في بوتقة واحدة
هي بوتقة
بناء مجتمع صالح وفرد يعيش حرية الفكر
وحرية الإنسانية وعبودية الباري عز
وجل.
مقتل الأمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
صعد المنصور من تضييقه على الإمام الصادق (عليه السلام)،
ومهّد لقتله. فقد روى الفضل بن الربيع عن أبيه ، فقال :
دعاني المنصور ، فقال : إن جعفر بن محمد يلحد في سلطاني ،
قتلني الله إن لم أقتله . فأتيته ، فقلت : أجب أمير المؤمنين .
فتطهّر ولبس ثياباً جدداً . فأقبلت به ، فاستأذنت له فقال : أدخله
، قتلني الله إن لم أقتله . فلما نظر إليه مقبلا ، قام من مجلسه فتلقّاه وقال :
مرحباً بالتقيّ الساحة البريء من الدغل والخيانة ، أخي وابن عمي .
فأقعده على سريره ، وأقبل عليه بوجهه ، وسأله عن حاله ، ثم قال :
سلني حاجتك ، فقال (عليه السلام): أهل مكّة والمدينة قد تأخّر عطاؤهم، فتأمر لهم به .
قال : أفعل ، ثم قال : يا جارية ! ائتني بالتحفة فأتته بمدهن زجاج،
فيه غالية ، فغلّفه بيده وانصرف فأتبعته ، فقلت:
يابن رسول الله ! أتيت بك ولا أشك أنه قاتلك ،
فكان منه ما رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك بشيء عند الدخول ، فما هو ؟
قال : قلت : «اللّهم احرسني بعينك التي لاتنام ،
واكنفني بركنك الذي لا يرام ،
واحفظني بقدرتك عليّ ، ولا تهلكني وانت رجائي ...» .
ولم يكن هذا الاستدعاء للإمام من قبل المنصور هو الاستدعاء الأول
من نوعه بل إنّه قد أرسل عليه عدّة مرات وفي كل منها أراد قتله
. لقد صور لنا الإمام الصادق (عليه السلام) عمق المأساة التي كان يعانيها
في هذا الظرف بالذات والاذى الّذي كان المنصور يصبه عليه، حتى قال (عليه السلام)
ـ كما ينقله لنا عنبسة ـ قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: «أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة حتى تقدموا
وأراكم أسرّ بكم، فليت هذا الطاغية أذن لي فاتّخذت قصراً في الطائف فسكنته
، وأسكنتكم معي ، وأضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبداً» .
وتتابعت المحن على سليل النبوّة وعملاق الفكر الإسلامي ـ
الإمام الصادق(عليه السلام) ـ في عهد المنصور الدوانيقي ـ
فقد رأى ما قاساه العلويون وشيعتهم من ضروب المحن والبلاء، وما كابده هو بالذات
من صنوف الإرهاق والتنكيل، فقد كان الطاغية يستدعيه بين فترة وأخرى
، ويقابله بالشتم والتهديد ولم يحترم مركزه العلمي، وشيخوخته، وانصرافه عن الدنيا
الى العبادة، وإشاعة العلم، ولم يحفل الطاغيه بذلك كلّه،
فقد كان الإمام شبحاً مخيفاً له... ونعرض ـ بإيجاز ـ للشؤون الأخيرة
من حياة الإمام ووفاته. وأعلن الإمام الصادق (عليه السلام)
للناس بدنوّ الأجل المحتوم منه، وان لقاءه بربّه لقريب، وإليك بعض ما أخبر به
أـ قال شهاب بن عبد ربّه : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام):
كيف بك إذا نعاني إليك محمد بن سليمان؟ قال:
فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان من هو. فكنت يوماً بالبصرة
عند محمد بن سليمان، وهو والي البصرة إذ ألقى إليّ كتاباً، وقال لي:
يا شهاب، عظّم الله أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد. قال: فذكرت الكلام فخنقتني العبرة.
ب ـ أخبر الإمام (عليه السلام) المنصور بدنوّ أجله لمّا أراد الطاغية
أن يقتله فقد قال له: ارفق فوالله لقلّ ما أصحبك. ثم انصرف عنه،
فقال المنصور لعيسى بن علي: قم اسأله، أبي أم به؟ ـ وكان يعني الوفاة ـ .
فلحقه عيسى ، وأخبره بمقالة المنصور، فقال (عليه السلام):
لا بل بي. وتحقّق ما تنبّأ به الإمام(عليه السلام) فلم تمضِ فترة يسيرة من الزمن حتى وافته المنية.
كان الإمام الصادق (عليه السلام) شجي يعترض في حلق الطاغية الدوانيقي،
فقد ضاق ذرعاً منه، وقد حكى ذلك لصديقه وصاحب سرّه محمد بن عبدالله الاسكندري.
يقول محمد: دخلت على المنصور فرأيته مغتمّاً، فقلت له: ما هذه الفكرة؟
فقال: يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة (عليها السلام)
مقدار مائة ويزيدون ـوهؤلاء كلهم كانوا قد قتلهم المنصور ـ وبقي سيّدهم وإمامهم.
فقلت: من ذلك؟
فقال: جعفر بن محمد الصادق.
وحاول محمد أن يصرفه عنه، فقال له: إنه رجل أنحلته العبادة،
واشتغل بالله عن طلب الملاك والخلافة. ولم يرتض المنصور مقالته فردّ عليه:
يا محمد قد علمتُ أنك تقول به، وبإمامته ولكن الملك عقيم.
وأخذ الطاغية يضيّق على الإمام، وأحاط داره بالعيون وهم يسجّلون
كل بادرة تصدر من الإمام، ويرفعونها له، وقد حكى الإمام (عليه السلام)
ما كان يعانيه من الضيق، حتى قال: «عزّت السلامة،
حتى لقد خفي مطلبها، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول،
فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، والسعيد
من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها». لقد صمّم على اغتياله غير حافل بالعار والنار
، فدسّ اليه سمّاً فاتكاً على يد عامله فسقاه به، ولمّا تناوله الإمام(عليه السلام)
تقطّعت أمعاؤه وأخذ يعاني الآلام القاسية، وأيقن بأن النهاية الأخيرة
من حياته قد دنت منه. ولمّا شعر الإمام(عليه السلام) بدنوّ الأجل المحتوم
منه أوصى بعدّة وصايا كان من بينها ما يلي:
أ ـ إنه أوصى للحسن بن علي المعروف بالأفطس بسبعين ديناراً، فقال له شخص:
أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة؟ فقال (عليه السلام) له:
ويحك ما تقرأ القرآن؟! (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل
، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب). لقد أخلص الإمام (عليه السلام)
كأعظم ما يكون الإخلاص للدين العظيم، وآمن بجميع قيمه وأهدافه،
وابتعد عن العواطف والأهواء، فقد أوصى بالبرّ لهذا الرجل
الذي رام قتله لأن في الإحسان اليه صلة للرحم التي أوصى الله بها.
ب ـ إنه أوصى بوصاياه الخاصّة، وعهد بأمره أمام الناس الى خمسة أشخاص:
وهم المنصور الدوانيقي، ومحمد بن سليمان، وعبدالله، وولده الإمام موسى، وحميدة زوجته.
وإنما أوصى بذلك خوفاً على ولده الإمام الكاظم (عليه السلام)
من السلطة الجائرة، وقد تبيّن ذلك بوضوح بعد وفاته، فقد كتب المنصور
الى عامله على يثرب، بقتل وصي الإمام ، فكتب إليه: إنه أوصى الى خمسة،
وهو أحدهم ، فأجابه المنصور: ليس الى قتل هؤلاء من سبيل.
ج ـ إنه أوصى بجميع وصاياه الى ولده الإمام الكاظم (عليه السلام)
وأوصاه بتجهيزه وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، كما نصبه إماماً من بعده
، ووجّه خواصّ شيعته إليه وأمرهم بلزوم طاعته
د ـ إنه دعا السيّدة حميدة زوجته، وأمرها باحضار جماعة من جيرانه،
ومواليه، فلمّا حضروا عنده قال لهم: «إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة
...». وأخذ الموت يدنو سريعاً من سليل النبوة، ورائد النهضة الفكرية في الإسلام،
وفي اللحظات الأخيرة من حياته أخذ يوصي أهل بيته بمكارم الأخلاق
ومحاسن الصفات، ويحذّرهم من مخالفة أوامر الله وأحكامه، كما أخذ
يقرأ سوراً وآيات من القرآن الكريم، ثم ألقى النظرة الأخيرة على ولده
الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، وفاضت روحه الزكية الى بارئها.
لقد كان استشهاد الإمام من الأحداث الخطيرة التي مُني بها العالم الاسلامي
في ذلك العصر، فقد اهتزّت لهوله جميع ارجائه، وارتفعت الصيحة
من بيوت الهاشميين وغيرهم وهرعت الناس نحو دار الإمام
وهم ما بين واجم ونائح على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً ومفزعاً لجميع المسلمين.
وقام الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وهو مكلوم القلب، فأخذ في تجهيز جثمان أبيه،
فغسل الجسد الطاهر، وكفّنه بثوبين شطويين كان يحرم فيهما،
وفي قميص وعمامة كانت لجدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام)،
ولفّه ببرد اشتراه الإمام موسى (عليه السلام) بأربعين ديناراً
وبعد الفراغ من تجهيزه صلّى عليه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)
وقد إأتمَّ به مئات المسلمين. وحمل الجثمان المقدّس على أطراف الأنامل
تحت هالة من التكبير، وقد غرق الناس بالبكاء وهم يذكرون
فضل الإمام وعائدته على هذه الاُمة بما بثّه من الطاقات العلمية
التي شملت جميع أنواع العلم. وجيء بالجثمان العظيم الى البقيع المقدّس،
فدفن في مقرّه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين
وأبيه الإمام محمد الباقر (عليهما السلام) وقد واروا معه العلم والحلم،
وكل ما يسمّو به هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان.
وعظم الله أجوركم أيها الأحبة بمصابه العظيم وأحسن لكم العزاء