ولكي نكون أكثر وضوحاً، يجب اعطاء فكرة مبسطة عن آراء
(بافلوف)، وطريقته في تفسير الفكر، تفكيراً فسيولوجياً: فإن هذا العالم
الشهير، استطاع أن يدلل بالتجربة، على أن شيئاً معيناً إذا ارتبط بمنبه طبيعي،
اكتسب نفس فعاليته، وأخذ يقوم بدوره، ويحدث نفس الاستجابة التي يحدثها
المنبه الطبيعي. فتقديم الطعام إلى الكلب مثلاُ_ منبه طبيعي، يحدث فيه
استجابة معينة: إذ يسيل لعابه، أول ما يرى الاناء الذي يحتوي على الطعام.
وقد لاحظ ذلك (بافلوف)، فأخذ يدق جرساً عند تقديم الطعام إلى الكلب.
و كرر هذا عدة مرأت. أخذ يدق الجرس من دون تقديم الطعام. فوجد
أن لعاب الكلب يسيل. واستنتج من هذه التجربة: أن دق الجرس أصبح
يحدث نفس الاستجابة، التي كان المنبه الطبيعي (تقديم الطعام) يحدثها،
ويؤدي نفس دوره، بسبب اقترانه واشتراطه به عدة مرات ولهذا أطلق
على دق الجرس أسم
ألمنبه الشرطي) وسمي تحلب اللعاب وسيلانه،
الذي يحدث بسبب دق الجرس: (استجابة شرطية).
وعلى هذا الأساس حاول جماعة، أن يفسروا الفكر الإنساني كله،
تفسيراً فسيولوجياً، كما يفسر تحلب اللعاب عند الكلب تماماً. فأفكار الإنسان
كلها استجابات لمختلف أنواع المنبهات. وكما أن تقديم الطعام إلى الكلب،
منبه طبيعي، يستثير استجابة طبيعية وهي سيلان اللعاب، كذلك توجد بالنسبة
إلى الإنسان منبهات طبيعية، تطلق استجابات معينة، اعتدنا أن نعتبرها ألواناً
من الإدراك. وتلك المنبهات، التي تطلق هذه الاستجابات، هي الإحساسات
الداخلية والخارجية. وكما أن دق الجرس، اكتسب نفس الاستجابة، التي
يحدثها تقديم الطعام إلى الكلب، بالاقتران والاشتراط، كذلك توجد أشياء
كثيرة، اقترنت بتلك المنبهات الطبيعية للإنسان، فأصبحت منبهات شرطية
له ومن تلك المنبهات الشرطية: كل أدوات اللغة. فلفظة الماء_ مثلاً_
تطلق نفس الاستجابة، التي يطلقها الإحساس بالماء. بسبب اقترانها واشتراطها
به. فالإحساس بالماء، أو الماء المحسوس: منبه طبيعي، ولفظ.(الماء):
منبه شرطي، وكلاهما يطلقان في الذهن، استجابة من نوع خاص.
وقد افترض بافلوف لأجل ذلك نظامين أشاريين.
أحدهما: النظام الاشاري، الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية،
والمنبهات الشرطية، التي لا تتدخل فيها الألفاظ.
والآخر: النظام الاشاري المشتمل على الألفاظ والأدوات اللغوية،
بصفتها منبهات شرطية ثانوية: فهي منبهات ثانوية، أشرطت بمنبهات
النظام الاشاري الأول، واكتسبت بسبب ذلك، قدرتها على إثارة استجابات
شرطية معينة.
والنتيجة التي تنتهي إليها آراء (بافلوف) هي: أن الإنسان لا يمكنه
أن يفكر بدون منبه، لأن الفكر ليس إلا استجابة من نوع خاص للمنبهات.
كما أنه لا يتاح له الفكر العقلي المجرد، إلا إذا وجدت بالنسبة إليه منبهات
شرطية، اكتسبت عن طريق اقترانها بالاحساسات، نفس الاستجابات التي
تطلقها تلك الأحاسيس. وأما إذا بقي الإنسان رهن إحساساته، فلا يستطيع
أن يفكر تفكيراً مجرداً، أي أن يفكر في شيء غائب عن حسه. فلكي يكون
الإنسان كائناً مفكراً، لا بد من أن توجد له منبهات، وراء نطاق الإحساسات
نطاق المنبهات الطبيعية.
* * *
ولنفترض أن هذا كله صحيح. فهل يعني ذلك أن اللغة هي أساس
وجود الفكر في الحياة الإنسانية؟. كلا فإن إشراط شيء معين بالمنبه الطبيعي،
لكي يكون منبهاً شرطياً، يحصل تارة، بصورة طبيعية. كما إذا اتفق أن
اقترنت رؤية الماء بصوت معين، أو بحالة نفسية معينة، مرات عديدة،
حتى أصبح ذلك الصوت أو هذه الحالة، منبهاً شرطياً، يطلق نفس
الاستجابة التي كان يطلقها الإحساس بالماء. فالاشراط في هذه الحالات
إشراط طبيعي. ويحصل هذا الاشراط، تارة أخرى، نتيجة لقصد معين،
كما في سلوكنا مع الطفل، إذ نقدم له شيئاً كالحليب، ونكرر له إسمه،
حتى يربط بين الكلمة والشيء. ويصبح الاسم منبهاً شرطياً للطفل، نتيجة
للطريقة التي اتبعناها معه.
ولا شك في أن عدة من الأصوات والأحداث، قد اقترنت بمنبهات
طبيعية، عبر حياة الإنسان، وأشرطت بها إشراطاً طبيعياً. وأصبحت بذلك
تطلق استجابات معينة، في ذهن الإنسان. وأما أدوات اللغة_ على وجه
العموم_ وألفاظها، التي تم إشراطها خلال عملية اجتماعية، فهي إنما
أشرطت نتيجة لحاجة الإنسان، إلى التعبير عن أفكاره ونقلها إلى الآخرين
أي أنها وجدت في حياة الإنسان، لأنه كائن مفكر، يريد التعبير عن
أفكاره. إلا أن الإنسان أصبح كائناً مفكراً، بسبب أن اللغة وجدت في
حياته. وإلا فلماذا وجدت في حياته خاصة، ولم توجد في حياة سائر أنواع
الحيوان؟!. فاللغة ليست أساس الفكر، وإنما هي أسلوب خاص للتعبير
عنه، اتخذه الإنسان منذ أبعد العصور، حين وجد نفسه_ وهو يخوض
معركة الحياة، مع أفراد آخرين_ بحاجة ملحة إلى التعبير عن أفكاره،
وتفهم أفكار الآخرين، في سبيل تيسير العمليات التي يقومون بها،
وتحديد الموقف المشترك أمام الطبيعة، وضد القوى المعادية.
______ يتبع