الحجّ في كلمات الإمام عليّ عليه السّلام الحجّ وطريق النور كلمات الإمام
يجد الإنسان المسلم في «نهج البلاغة» كلمات للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يتعلّم منها، ويقرأ فيها آفاقاً ما كان ليجدها في كلام غيره من الناس بعد كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهل أعجب في الحديث عن الكعبة والحج من كلام رجل يعدّ من أصحاب البصائر الفريدة، كان قد جرّب وذاق وعرف، فسما وامتلأ وفاض؟!
يقول الإمام عليّ عليه السّلام وهو يذكر الحج:
1 ـ وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قِبلةً للأنام ، يَرِدونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحَمام ، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته .
2 ـ واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه. يحرزون الأرباح في مَتجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته.
3 ـ جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حرماً، فَرَض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليكم وفادته ، فقال سبحانه: ولِلّهِ على الناسِ حجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليه سبيلاً، ومَن كفرَ فإنّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمينَ .
ويقول عليه السّلام أيضاً وهو يذكر الكعبة وصفتها، والحجّ وأسراره:
4 ـ ألا ترون أنّ الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخِرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الذي جعله للنّاسِ قياماً .
5 ـ ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مَدَراً ، وأضيق بطون الأودية قُطْراً: بين جبال خشنة، ورمال دمِثة ، وعيون وَشِلَة ، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف .
6 ـ ثمّ أمر آدم عليه السّلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزُّوا مناكبهم ذُللاً يهلّلون للهِ حوله، ويَرْمَلون على أقدامهم شُعْثاً غُبْراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خَلقِهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنّته.
7 ـ ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام ، بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار ، جمَّ الأشجار ، دانيَ الثمار، ملتفَّ البُنى ، متّصِل القُرى، بين بُرّةٍ سمراء، وروضة خضراء، وأرياف مٌحْدِقة، وعِراصٍ ، مُغْدِقة ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صَغُرَ قَدْرُ الجزاء على حسب ضعف البلاء.
8 ـ ولو كان الأساس المحصول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمُرُّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لَخفّف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولَوضعَ مجاهدةَ إبليس عن القلوب، ولنفى معتلَجَ الرَّيب من الناس.
9 ـ ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المَجاهِد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعلَ ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه.
في الظِّلال
الكعبة والحجّ: من الوجهة التاريخية، كانا منذ كان الإنسان الأوّل. لكأنّ الحجّ ـ بالصيغة التي حدّدها الله تعالى ـ ضرورة من ضرورات العلاقة بين السيِّد والعبد. وكان إبراهيم الباعث لما امّحى من أثر الكعبة بعد تطاول الزمن، والمؤذّن في الناس بالحج بصوت فصيح عال. ثمّ جاءت الرسالة الأخيرة الخاتمة التي تلقّاها محمد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض مكّة، فكان لمكّة في رسالة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مكانة خاصّة، وللحج منزلة عظيمة، وللشهر الحرام تقدير وتوقير.
وحجّ البيت، في حقيقته مجاهدة وامتحان واختبار وابتلاء وتمحيص، يمتلئ من يجتازه ظافراً بالتذلّل لله، والتواضع لعظمته، والتحرّر من داء الزهو والخيلاء والكبرياء أمام عزّة ربّ العزّة جلّ وعلا، ويفوز بالرحمة السابغة والرضوان.
وهنالك يتذوّق المرء الأشياء والأفكار تذوّقاً و «يحسّ» على الحقيقة بالصلة الأخوية الحميمة التي تربطه بإخوانه المؤمنين الذين يطوفون حول الكعبة مثله، وسيدرك إدراكاً عميقاً معنى عبارة: المسلمون كلّهم إخوة.
والإنسان متجرّد باختياره، خلال الحج أو العمرة، من أثقال المادّة، فهو يسعى ـ نحو الصراط ـ خفيف الروح ، طليق النفس، واثب الخطوات. ومن تخفّف فقد لحق ونجا، و:
[ تخفّفوا تلحقوا].
كما يقول الإمام عليّ عليه السّلام، و «هكذا ينجو المُخِفّون» كما عبّر سلمان الفارسيّ: الرجل الذي دخل ـ بجدارة ـ بوّابة الصراط.
إنّ هذه الكتل البشرية الهائلة التي تقصد البيت الحرام لتقتحهم الصعاب، وتعاني من السفر الشيء الكثير، وفي أعماقها تنبض لهفة روحية صادقة، وتتوثّب خفقة إيمانية رائعة مشوّقة لرؤية البيت، ولاستلام الحجر، وللطواف أشواطاً بعد أشواط. إنّهم هم السمّاع الذين أجابوا الدعوة، وأسراب الحمام الوالهة المستهامة.
ومن يقصد البيت يجد أمامه الأنبياء والقادة عليهم السّلام في الطريق اللاحب اللذيذ، فإلى هنا وصلوا، وها هنا وقفوا، ومن هنا طافوا، وفي هذه البقعة كانت تصعد منهم أصدق الدعوات، وتنبجس من نفوسهم الشريفة أحرّ المناجاة، وهنا ذرفوا ـ خوفاً وشوقاً ـ أعزّ الدموع. وإنّهم ليطوفون ثمّ يطوفون، ويودّون ألاّ ينقطع الطواف، ثمّ لا يكفّون عن الحمد والتسبيح والاستغفار والتهليل.
ما أقرب صورة الحجيج هذه المطيفة المهللة المكبّرة المسبّحة إلى صورة ملائكة الرحمن الطوافين بعرش ربّ العزّة في السماوات العلى!
إنّ الصورة كالصورة، والتجربة تسمو نحو الماثل، وإنّه لدرب موصول بين الكعبة والعرش. والغاية أن يدنو الإنسان أكثر فأكثر من رحمة ربّه، وأن تتضاءل المسافة التي تفصله عن رضوان الله، وعن نعيم الجنّة. أوَ لم نقل إنّ الطريق إلى الكعبة طريق إلى الجنّة ؟!
الحجّ مجاهدة واختبار وتمحيص. والفوز بالحجّ ـ بشروطه وحدوده التي أرادها المولى سبحانه ـ صعود في درب الإيمان درجة أو درجات. وترويض النفس على المكاره وتزكية لها وتنقيح، وتنقية من مواطن الضعف، وانتصار على مواضع الوهن. ثمّ يكون الجزاء عند الله سبحانه من جنس العمل. ولو كانت وفادة البيت الحرام أمراً سهلاً مستسهلاً لما تهيّأت للنفس فرصة التطهُّر والتنقية والترويض، و:
[ لكان قد ضعف قدْر الجزاء على حسب ضعف البلاء ].
كما يقول الإمام عليّ عليه السّلام.
الطريق إلى الكعبة طريق طويل، والناس يفدون إلى البيت من شتّى بقاع الأرض: من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة. يجتازون إليها ـ وهم في الطريق ـ حجارةً وعرة، وبطونَ أودية ضيّقة، ويمرّون بجبال خشنة، ورمال ليّنة لا تصلح للاستقرار، وبمفاوز شحيحة الماء، نادرة الخصب، وبقرى منقطعة غير آهلة بالحياة.
ثمّ تصل قوافل الحجيج، بعد ما تحمّلوا من مشقّة السفر ووعثاء الطريق، إلى موضع الكعبة، فإذا هي حجارة مرصوفة فوق بعضها، ثمّ لا غير. حجارة فيها قساوة الطريق، وجفاف الصحراء ولون الجبال الجرداء. إذن، فهذه الرحلة الطويلة الحافلة بألوان المشقّة، وضروب الأذى، وأنواع العناء، إنّما كانت من أجل بلوغ هذه الحجارة الصامتة التي جعلها ربّ العالمين بيتاً مقدّساً نسبه إلى نفسه تبارك وتعالى.
فما أشدّ المعاناة إذن! وما أحوج الحاج إلى المزيد من الصبر ثمّ المزيد، وهو يتحمّل كلّ مشقّات الحجّ وكلّ تكاليفه!
بيد أنّ هذه التجربة لرائعة من التجارب، إن لم تكن أروع تجربة في حياة الإنسان، فالرحلة إنّما كانت في صحراء قفراء من أجل أن ينعم الإنسان بمزيد من الخصوبة الروحية. والسفر إنّما كان في بيداء ممتدة كالليل من أجل أن يشعّ الإنسان من الداخل، كالماس، لتكون هذه الرحلة وهذه السفرة بمثابة درجة جديدة في المرقى نحو تغيير النفوس، ودماء جديدة في حياة المجتمع المؤمن الصاعد في درب الله:
• إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنْفسِهمْ .
وإنّ الإنسان حين يطوف حول الكعبة الشريفة، يصل إلى حالة يكفّ فيها عن النظر إلى هذه الحجارة كشيء فيزيائي. لقد دخلت هذه الحجارة الوعيَ الإنساني، وجعلت المرء يملك إزاءها حسّاً بالأبديّة الملفّعة بالعظمة والجلال.
والمرء حين يبصر الكعبة، تتألّق في روحه حيوية من طراز خاص، هي انعكاس حيّ لمضمون الكعبة العظيم. والمرء يتلقّى من هذه الحيوية بقدر ما لأدواته الروحية من قدرة على التلقّي والقبول، أو بقدر ما يفيضه كرم ربّ البيت على عبده الضعيف الذي قصد بيت سيّده من مكان قاصٍ، ومن فجّ عميق.
إنّ المعرفة المجرّدة ربّما يلتقطها المرء من أيّ مكان، ولكنّ البصيرة هي التي تحتاج إلى التجربة. وهل أكثر شحذاً للبصيرة من تجربة الرحلة إلى بيت الله، والفوز بضيافة الله، في أيّام تُعَدّ للإنسان أروع أيّام العمر ؟! وهل عمر الإنسان إلاّ لون إحساسه بالحياة ودرجة إحساسه بهذه الحياة ؟!
وما أعظم نصيب البشرية من الحكمة والهناء لو أنّ الحجيج كلّهم عادوا من حجّهم، رؤاةً مبصرين!
وما أخيب الحاج الذي رأى الكعبة بعين البصر ولم يدركها بعين البصيرة!