قبلات مسروقة في نادي الصيد عدي صدام حسين و ميشيل نوري
النخيل-في مطلع سبعينيات القرن الماضي، خلال زيارته للعاصمة التشيكية براغ التي كانت لا تزال ترزح تحت نير الشيوعية السوفيتية، التقى محمد نوري، رجل أعمال شاب من العراق بجانا، فتاة شقراء أسرت قلبه من النظرة الأولى، عرض عليها الزواج بعد أن أغرقها بالهدايا و الورود فوافقت، ثم طارت معه الى بلده حيث أقاما وأنجبا ثلاث بنات جميلات، أطلقت الأم على كبراهن أسم ميشيل بوحي من أغنية فريق البيتلز الشهيرة ...
بعد أن تركت بغداد رغما عنها في أواخر الثمانينات، غادرت ميشيل تشيكوسلوفاكيا الى العاصمة الإيطالية روما لتصبح مقدمة برامج تلفزيونية هناك ثم قرّرت كتابة حكايتها ... كتابها الذي حمل عنوان "فتاة من بغداد: القصة الحقيقية لامرأة ممزّقة بين عالمين" و الذي نشرته دار راندم هاوس الأسترالية العام الماضي وقع بالصدفة بين يديّ و أنا أتجوّل بين رفوف أحدى المكتبات في نيوزلندا، قرأته باهتمام و ها أنا أكتب عنه مقالا قد يصل بكبسة زر الى المئات من العراقيين داخل و خارج البلاد ... كم صغيرا ومتغيرا و سريعا هو عالمنا اليوم!
تلك خاطرة راودتني وأنا أتصفح مؤلفا لكاتب تركيا الشهير أورهان باموك الذي يقف على مشارف الستين من العمر وهو لا يزال يقيم في مدينته الأثيرة اسطنبول و يكتب عنها بحميمية آسرة، لا يزال يتنزه في شوارعها وحدائقها، بل لا يزال يعيش في المنزل الذي ولد فيه ... حكايات اسطنبول صارت حكاية أورهان باموك كما أن حكايات القاهرة القديمة صارت حكاية نجيب محفوظ الذي وحتى وقت قصير قبل وفاته ظل حريصا على ممارسة طقوسه فيها و معها ...
لا أعتقد أن مثل هذا التماهي بين الكاتب ومسقط رأسه يتوفر لنا اليوم، نحن المهاجرون الى أصقاع الأرض حاملين معنا ذكريات مدينة كانت و لم تعد بغداد ... أحاول أن أقنع نفسي بأن تعلّقنا المفرط بالمكان أو الشخوص أو التقاليد هو في النهاية قيد قد يكون جميلا أن نتحرّر منه، أو على الأقل، أن نحاول التحرّر منه.
لاأعرف أن كانت رغبتنا في التحرّر تلك هي التي جعلت كثرة منا تنكبّ على تدوين ذكرياتها في كتب تشهد رواجا لا بأس به بين القرّاء في الغرب، المتعطشين أبدا الى حكايا الشرق و قصص عشقه المحكومة بالتخفّي والدسائس والفراق، لعل حنيننا الى تلك الأيام أيضا وراء قليل أو كثير من المبالغة وسمت كتاباتنا عنها ... أورهان باموك يتحدث عن ذلك في كتابه العتيد "اسطنبول: الذكريات و المدينة" والذي نال على أثره جائزة نوبل للآداب في عام 2006، يتساءل: هل نزعة الكاتب لتجميل ماضيه ومرابع طفولته هي في حقيقتها هروب من قتامة وعادية حاضره؟ كتاب ميشيل نوري الذي انتهيت من قراءته قبل أيام معدودات كان له من المبالغة حينا، والمغالطة أحيانا، وربما الإدّعاء أيضا، نصيب لا بأس به.
الأخوات الثلاث حظين بطفولة مرفّهة في كنف والدين متحابات، كل شيء كان يمضي على خير ما يرام حتى بدأت مشاعر الأب تجاه أسرته بالتغير ... الأم لا تعلم للجفاء سببا و تبذل كل ما في وسعها لاسترضاء زوجها و عائلته المتسلّطة، تعتنق الإسلام ثم تحاول أن تلد له ولدا لكن محاولاتها تبوء بالفشل، تدرك أخيرا أنه يخونها مع فتاة تصغره كثيرا، يخطط للزواج بها ...
تنقلب حياة الأسرة رأسا على عقب، و يتحول الحب الجارف الذي جمع بين الزوجين يوما الى مقت شديد ونزاع مدمر يحيل حياة بناتهم جحيما ... جانا تفقد جنينها و يهجر محمد المنزل ليقيم في بيت والدته، بل أنه يمتنع عن أعالة زوجته و بناته و ينصرف كليّة الى حياته الجديدة مع زوجته الفتية ... تحت وطأة الحزن والفقر،لا تجد الأم بدا من العودة مع بناتها الى موطنها الأصلي تشيكوسلوفاكيا.
بعد سنوات الرخاء التي عشنها فـــي بغداد، تعاني ميشيل وأخواتها الصغيرات من شظف العيش فــي بيت جدهن المتواضع و قسوة جدتهن العجوز التي لا تتوانى عن ضربهن وأهانتهن . جانا تغرق في كآبة شديدة فلا تغادر سريرها ألا في ما ندر ولا تلقي بالا الى شكوى ودموع بناتها وهن يكابدن الغربة والعزلة في مدرستهن الجديدة التي ألحقن بها قسرا ..
ميشيل تضطر الى العمل كمترجمة في أحد متاجر براغ المتواضعة لتؤمّن لها عيشا مستقلا في غرفة بائسة في بناية متهالكة، تتعرّف بالصدفة على سائح إيطالي في إحدى الحانات يعرض عليها أن تلحق به عندما يعود الى روما، تحاول دخول إيطاليا فتفشل ثم تعيد المحاولة مرة أخرى فتنجح ...
تواجه الوحشة في بلد غريب لا تجيد لغة أبنائه لكنها لا تستسلم بسهولة، تزاول شتى المهن قبل أن تظهر على التلفزيون الإيطالي خلال فترة الحرب على العراق عام 1991 لتتحدث عن حياتها في بغداد ثم تقوم لاحقا بتقديم برنامجها التلفزيوني الخاص عن شؤون و شجون المهاجرين في أيطاليا.
الكتاب في مجمله ممتع و بين دفتيه لمحات إنسانية لرحلة فريدة، أو كما تسميها مؤلفته، رحلة بين عالمين ... تذكّرت مع ميشيل أيام ترقّبنا الموت المتساقط عشوائيا مع الصواريخ التي استباحت أحياء بغداد خلال سنوات الحرب مع إيران، تعاطفت معها و هي تشهد تحول والدها المحب الى شخص عدواني يقتحم المنزل في ساعات الليل المتأخرة، يعتدي على والدتها و يخرج محملا بالثمين من المقتنيات ... للكتاب مع الأسف نقطة ضعف واضحة أخلّت ببناءه و أضرّت بمصداقية مؤلفته، ألا و هي حديثها عن علاقة حب مزعومة جمعت بينها و بين عدي صدام حسين.
ميشيل تقول إنها كانت تشاهد أبن الرئيس خلال زياراتها المتكرّرة الى نادي الصيد، اعترضت طريقه في أحدى المرات رغبة منها في لفت انتباهه، بادرها بالحديث ثم وقع سريعا في غرامها، العلاقة بينهما بلغت ذروتها بقبل حارة اختلساها تحت جنح الظلام في حدائق النادي ... و لم لا؟ قد يتساءل القارئ العربي أو الغربي ... من حيث المبدأ، لا شيء يمنع حدوث ذلك، لكن القارئ العراقي سيستبعد الاحتمال لعدة أسباب، أولها فارق السن بين العاشقين، فقد التقت ميشيل عديا لأول مرة عندما كانت في الثانية عشر من عمرها و هو في الحادية و العشرين ...
من الصعب تخيّل أن طفلة بعمرها تخلب لب رجل كعدي تحيط به حسناوات متفجّرات الأنوثة والجمال من كل جانب، كما أنّ الكثير من العراقيين يعلمون أنه في تلك الفترة كان مغرما بابنة طبيب عراقي كان ينوي الزواج بها لولا رفض عائلته القاطع لارتباطه بفتاة من خارج القبيلة، وهو السبب الثاني الذي يدعونا الى التشكيك في رواية ميشيل، فحديثها عن رقة عدي وتقبيله يدها في كل لقاء يقترب من السذاجة ويناقض كل ما عرف عن شخصيته وتقاليد عشيرته التي تنظر بدونية لأيّ رجل يأتي بمثل تلك التصرفات, فلا رأي يسمع لنساء القبيلة ولا قرار مهم يستشرن فيه، وبالتأكيد، لا قبل يطبعها الرجال على أيديهن.
ليس من الصعب التخيّل بأن ناشر الكتاب، أو المحرّر، أو كليهما معا، عندما علما بأمر تردّد ميشيل على نادي الصيد و لقائها بأبن الرئيس هناك — و قد تكون تبادلت معه بعض الأحاديث العابرة بالفعل — قد مارسا عليها ضغوطا لاختلاق قصة حب جمعت بينهما لتضفي إثارة على أحداث الكتاب و تزيد من مبيعاته، ثم تم اختيار الظلام مسرحا لمغامرتهما المزعومة رغم أن عديا لم يكن أبدا ليتجوّل في حدائق نادي الصيد أو سواه من نوادي بغداد بدون مرافقيه الشخصيين، لكن بما أن الطرف الثاني في القصة لم يعد موجودا، فمن المستحيل على أيّ كان تأكيد الحكاية أو نفيها الان ...
الكتاب سيثير اهتمام البعض بلا شك، لكن هل سينجح في التربع على قوائم أكثر الكتب مبيعا كما فعلت كتب سبقته و أخرى ستأتي بعده لسيدات يزعمن أنهن كن على علاقة عاطفية مع هذا الرئيس أو ذاك أو أبنائهما أو أفراد حاشيتهما، أم ترى القارئ الغربي سيصاب بالتخمة و ينصرف عن شراء و قراءة مثل تلك الكتب؟ وحدها الأيام كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.
علي شاكر
وكالة انباء النخيل