العودة إلى الله في شهر الله
ان الخطأ سمة إنسانية للضعف الكامن في الإنسان ولقوة الشهوات وشدة الاغراءات، وإذا تراكمت هذه الأخطاء وازدادت فإن هذا يؤدي إلى تحول الغارق فيها إلى عنصر فساد وافساد ضد مسيرة الأنسان وبالتالي يساهم في زيادة الشقاء والتعاسة لنفسه وللآخرين ولذلك، فتح الله لطفاً منه ورحمة بابا اسماه باب التوبة وهو باب يؤدي بداخله إلى الرجوع إلى الطريق الألهي الذي خرج عليه بالخطأ والذنب لينقذ هذا الإنسان الحائد عن الدرب وليجنّبه أسباب الشقاء ويبعد عن الناس شر هذا الخارج.
يقول القرآن كتاب الله المبين: (يا عبادى الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً).
ويقول: (إستغفروا ربكم انه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا).
وقال رسول الله (صلى الله عليه واله) ذات يوم لأصحابه: “داؤكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار”.
وقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): (العجب ممن يقنط ومعه الممحاة قيل وما الممحاة؟ قال: (الاستغفار) وجاء أيضاً: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
إن الأمل في عودة الإنسان المذنب الخاطئ إلى جادة الصواب وانهاء حالة الشذوذ والخروج عن الخط المرسوم وفتح صفحة جديدة خالية من الماضي البئيس الأسود أمل حي قوي مهما كانت الذنوب والأخطاء المقترفة.
إنَّ هذا الرجاء الذي ليس دون تحقيقه حواجز أو وسائط هو الذي يضع أقدام المذنبين الخاطئين على الطريق المستقيم ويزيل البقع السود من قلوبهم ويعيد هم إلى التناغم والإنسجام مع الوجود الطائع المنيب المسبح لرب العالمين.
يقول أميرالمؤمنين (ع): (من أعطى أربعا،لم يحرم أربعا من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطى التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطى الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطى الشكر لم يحرم الزيادة).
وتتأكد أهمية التوبة إلى الله ويعظم الرجاء في قبولها في شهر رمضان المبارك شهر الله سيد الشهور ونحن نعيش الظروف الخاصة المتميزة لهذا الشهر الفضيل الذي نزل فيه الكتاب المبارك وفرض فيه الصيام ودعينا إلى ضيافة الجواد الكريم. يقول الرسول الرحيم (ص) في خطبته التاريخية إستقبل بها شهر رمضان: “أيُّها الناس انّ أنفسكم بأعمالكُم ففكوها بإستغفاركم وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم.. وتوبوا إلى الله من ذنوبكم”.
ويقول في حديث آخر: “ان شهركم هذا ليس كالشهور انَّه إذا أقبل إليكم أقبل بالبركة والرحمة وإذا أدبِّر عنكُم أدَبِّر بغفران الذنوب”.
إن الآثار النفسية والاجتماعية الواضحة التي تتركها التوبة في حياة الفرد والمجتمع هي التي جعلت منها ترتقي إلى مستوى الوجوب والفرض وعندما يكون أمر ما واجباً فهذا يعني من الضرورات اللازمة التي لا يمكن الاستغناء عنها بحال يقول تعالى في كتابه العزيز: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّها المؤمنون لعلَّكُم تُفلحون).
ويقول: (يا أيُّها الَّذين أمنوا توبوا إلى الله توبه نصوحا).
والتوبة النصوح هي التوبة الخالصة التي لا يعاد بعدها الذنب وقد يكون من النصح بمعنى إزالة الادران كما يقال نصح الغيث البلد.
إنَّ التوبة الصادقة المخلصة هي الباب الإلهي المفتوح الذي يتمكن من معالجة حالة لشذوذ في حياة الإنسان وتحريره من كافة النتائج والآثار السلبية السيئة الناجمة عن الذنوب ومنها الأمراض والعقد النفسية وإذا كان الطب يقسم إلى وقائي وعلاجي فالإسلام منهج الله الذي يستهدف سعادة الإنسان ينقسم كذلك إلى وقائي وعلاجي وقد عرف طبّياً انّ الوقاية خير من العلاج وهذا قانون صادق وصحيح أيضاً في منهج الله فإن الإبتعاد عن الذنوب وإجتناب الموبقات أفضل بكثير من الوقوع فيها وإقترافها ومن ثم يُحاولُ والتخلص منها فعندما سأل على بن أبي طالب (ع) رسول الله (ص) بعد الإنتهاء من خطبته عن أفضل الأعمال في شهر رمضان أجاب القائد المعلم الربّاني: “يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ”.
والورع عن محارم الله يعني الإبتعاد والاجتناب عن المحرمات وهي حالة سلبية وقائية. وقد ورد عن رسول الله ان “الحمية رأس كل دواء”.
والرسول الكريم كما يصفه علي بن أبي طالب (ع): (طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه).
وهناك أحاديث عديدة تؤكِّد هذا المنحى في منهج الله الإسلام العظيم من هذه الأحاديث حديث يقول: “من أحب المكارم إجتنب المحارم” ومنها: “من إجتنب ما حرَّم عليه فهو من أعبد الناس” ومنها “لرد المؤمن حراما يعدل عند الله سبعين حجة مبرورة” ومنها حديث يقول: “من ترك الشهوات كان حراً”. هذه هو منحى الإسلام في توفير السعادة للإنسان خليفة الله في الأرض فإذا تعثر هذا الخليفة في خطوة واقترف الآثام لضعفه وقوة شهواته والاغراءات فإن طب الإسلام العظيم لم يتركه يعيش وسط الظلمات متخبطاً وإنَّما يمد إليه يد الرحمة والانقاذ معالجاً ويهتف له بحنو ان يعود ويؤوب إلى الطريق ويفتح له أبواب الرجاء واسعاً ويأتي هتاف السماء الحبيب الذي يحمل الرجاء (يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً انَّه هو الغفور الرحيم).
الا إنَّ هذه التوبة لكي تتحقق وتحقق آثارها المطلوبة في النفس وفي المجتمع ولكي يعبر الإنسان المذنب عن صدقه وإخلاصه والعودة إلى الله لابدّ أن يتحقق من المذنب التائب ما يلي:
1- الاقرار بالذنب، فإن الإعتراف بالخطأ خطوة نحو التصحيح، ومن لم يغترف بخطأه ولم ير نفسه خاطئاً كيف يمكن له أن يخطو في الإتجاه الصحيح يقول حديث ورد عن أهل البيت (ع): (ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: ان يقروا بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم)، ويقول حديث آخر عنهم (ع): (حسن الاعتراف يهدم الاقتراف).
2- الندم وهو الإحساس بالألم والحسرة على ما بدر منه وصدر عنه مع رغبة نفسية ملحة لتلافية، وسد الثغرات التي خلفتها المواقف السلوكية التي أصبحت بغيضة ومرفوضة لدى الإنسان التائب. يقول حديث عن الباقر (ع) (كفى بالندم توبة)، يقول الامام زين العابدين (ع) في مناجاة التائبين: (إلهي ان كان الندم على الذنب توبة فإني وعزك من النادمين).
3- رجاء المغفرة، فأن المذنب المقر بذنبه النادم على ما اقترف من الذنوب، إذا لم يجد الأمل في الغفران لا يمكن أن يتقدم تائباً. يقول تبارك وتعالى: (يا عبادى الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، ويقول حديث عن أهل البيت (ع): بالمعنى (وارج الله رجاء بحيث انَّك لو اتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك).
ويقول شطر بيت لشاعر (ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل).
4- ترك المعاصي والسيئات التي كان يمارسها وعدم المعاودة إلى أمثالها، وذلك بالاتيان على الدافع النفسي المنحرف الذي يحرك الذنوب ويوجدها في الخارج، وقد مر بنا أن عيسى خاطب قومه: ان موسى أمركم بعدم الزنا وأنا آمركم: أن لا تحدَّثوا أنفسكم بالزنا.
5- تلافى ما يمكن تلافيه وأداء ما يمكن أداؤه، فإن كان الذنب سرقة وإعتداء على أحد أساءه إلى إنسان وجب عليه أن يعيد ما سرقه إلى أصحابه الشرعيين وأن يعتذر عن تعديه واساءته، كما يجب عليه أن يؤدي كل واجب فرط بأداءه وهو قادر عليه كالصلاة والصوم والحج وبر الوالدين، وهذه الخطوات لا يتخذها المذنب ولا تتحقق في عالم الوجود الا بعاملين أساسيين سابقين على تلك الخطوات هما المعرفة والإرادة القوية أمّا العامل الأول فهو ضروري للفرز والتمييز بين الصواب والخطاء والخير والشر والمسموح به والممنوع، وأما الثاني فهو ضروري كذلك لأن ادراك الممنوع والمسموح وحده لا يكفي أن لم تتوفر الإرادة الفعّالة التي تفعل المطلوب وتجتنب المحظور. وما أدق وأروع بيان علي بن أبي طالب (ع) لمفهوم التوبة وهو يستمع إلى أحد قال بحضرته (استغفرالله)
قال باب علم رسول الله للرجل: ثكلتك امك، اتدرى ماالاستغفار؟ ان الاستغفار درجة العليين وهو إسم واقع على ست معان:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقي الله املسا ليس عليك تبعه.
والرابع: ان تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها تؤدي حقها.
والخامس: ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ منهما لحم جديد.
والسادس: ان تذيق الجسم الم الطاعة كما اذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول استغفرالله.
ويقول حديث شريف آخر: مَن استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه).
إنَّ المأمول حقاً في هذا الشهر والفضيل ونحن في ضيافة الله أن لا نضيع هذه الفرصة المتاحه وإذا لم نعد بصدق وإخلاص إلى الله في شهر الله والشياطين مغلوله وأبواب النيران مغلقة وأبواب الجنان مفتحة فمتى نعود؟ إنَّ العودة إلى الله تعني العودة إلى عزتنا وكرامتنا وسعادتنا ومركزنا القيادي للعالم.
وما دام هذا الشهر العظيم المبارك بيننا ونحن في ضيافة الجواد الكريم ينبغي أن نغتنم الفرصة ونعود بحرارة وشوق وإخلاص إلى منهج الله الحق.
منقول من صفحة البلاغ بتصرف يسير
منقووووووووووول