عقيدتنا في زيارة القبور
ومما امتازت به الإمامية العناية بزيارة القبور " قبور النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام " وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها ، ولأجلها يضحون بكل غال ورخيص عن إيمان وطيب نفس .
ومرد كل ذلك إلى وصايا الأئمة ، وحثهم شيعتهم على الزيارة ، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى ، باعتبار أنها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة ، وباعتبار أن هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء الانقطاع إلى الله تعالى .
وجعلوها أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة ، ( إذ أن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وأن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان
- ص 102 -
أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة ) ( 1 ) .
وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحق العناية من أئمتنا ، فإنها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الأئمة وأوليائهم ، وتجدد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحق - تجمع في مواسمها أشتات
المسلمين المتفرقين على صعيد واحد ، ليتعارفوا ويتآلفوا ، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه وطاعة أوامره ، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام
والرسالة المحمدية ، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبر الكائنات وشكر آلائه ونعمه ، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدم الكلام عليها ، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة
( أمين الله ) وهي الزيارة المروية عن الإمام " زين العابدين " عليه السلام حينما زار قبر جده " أمير المؤمنين " عليه السلام
كما تفهم هذه الزيارات المأثورة مواقف الأئمة عليهم السلام وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الدين وتجردهم لطاعة الله تعالى ، وقد وردت بأسلوب عربي جزل ، وفصاحة عالية ، وعبارات سهلة يفهمها الخاصة والعامة ، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه تعالى . فهي بحق من أرقى الأدب الديني
* هامش *
(1) من قول الإمام الرضا عليه السلام . راجع كامل الزيارات لابن قولويه ص 122 . ( * )
- ص 103 -
بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم ، إذ أودعت فيها خلاصة معارف الأئمة عليهم السلام فيما يتعلق بهذه الشئون الدينية والتهذيبية .
ثم إن في آداب أداء الزيارة أيضا من التعليم والارشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينية السامية ، من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية روح العطف على الفقير ، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس .
فإن من آدابها ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في ( المرقد المطهر ) وزيارته . ومنها ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة . ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها :
1 - من آدابها أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهر ، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة ، وهي أن ينظف الانسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء ، ولئلا يتأفف من روائحه الناس ( 1 ) وأن يطهر نفسه من الرذائل .
وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيهه على تلكم الأهداف العالية فيقول : ( اللهم اجعل لي نورا وطهورا وحرزا كافيا من كل داء وسقم ومن كل آفة وعاهة ، وطهر به قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري ومخي وعظمي وما أقلت الأرض مني ، واجعل لي
* هامش *
(1) قال أمير المؤمنين عليه السلام : " تنظفوا بالماء من الريح المنتنة وتعهدوا أنفسكم ، فإن الله يبغض من عباده القاذورة الذي يتأفف من
جلس إليه " تحف العقول ص 24 . ( * )
- ص 104 -
شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي ) .
2 - أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب ، فإن في الأناقة في الملبس في المواسم العامة ما يحبب الناس بعضهم إلى بعض ويقرب بينهم ويزيد في عزة النفوس والشعور بأهمية الموسم الذي يشترك فيه .
ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم ، بل يلبس أحسن ما يتمكن عليه . إذ ليس كل أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الأناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال .
3 - أن يتطيب ما وسعه الطيب . وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب .
4 - أن يتصدق على الفقراء بما يعن له أن يتصدق به . ومن المعلوم فائدة التصديق في مثل هذه المواسم ، فإن في معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم .
5 - أن يمشي على سكينة ووقار غاضا من بصره . وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة وتعظيم للمزور وتوجه إلى الله تعالى وانقطاع إليه ، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض .
6 - أن يكبر بقول : " الله أكبر " ويكرر ذلك ما شاء . وقد تحدد في بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة . وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنه لا شئ أكبر منه . وأن الزيارة ليست إلا لعبادة
- ص 105 -
الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه .
7 - وبعد الفراغ من الزيارة للنبي أو الإمام يصلي ركعتين على الأقل ، تطوعا وعبادة لله تعالى ليشكره على توفيقه إياه ، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور .
وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر ، إن صلاته وعمله إنما هو لله وحده وإنه لا يعبد سواه ، وليست الزيارة إلا نوع التقرب إليه تعالى زلفى ، إذ يقول : " اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك ، لأنه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلا لك ، لأنك أنت الله لا إله إلا أنت . اللهم صل على محمد وآل محمد ، وتقبل مني زيارتي وأعطني سؤلي بمحمد وآله الطاهرين " .
وفي هذا النوع من الأدب ما يوضح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعا لهم في زيارة القبور ، وما يلقم المتجاهلين حجرا حينما يزعمون أنها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرب إليها والشرك بالله .
وأغلب الظن إن غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينية في مواسم الزيارات ، إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمد ، وإلا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها . حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نياتهم وتجردوا له في عباداتهم ، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله .
8 - ومن آداب الزيارة ( أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه
- ص 106 -
وقلة الكلام إلا بخير ، وكثرة ذكر الله ( 1 ) ، والخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمد وآل محمد ، وأن يغض من بصره ، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعا ، والمواساة لهم ، والورع عما نهى عنه وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان ) ( 2 ) .
ثم أنه ليست حقيقة الزيارة إلا السلام على النبي أو الإمام باعتبار أنهم " أحياء عند ربهم يرزقون " ، فهم يسمعون الكلام ويردون الجواب : ويكفي أن يقول فيها مثلا : ( السلام عليك يا رسول الله ) غير أن الأولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من
الزيارات عن آل البيت ، لما فيها - كما ذكرنا - من المقاصد العالية والفوائد الدينية ، مع بلاغتها وفصاحتها ، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتجه بها الانسان إلى الله تعالى وحده .
* هامش *
(1) ليس المراد من كثرة ذكر الله تكرار التسبيح والتكبير ونحوهما فقط . بل المراد ما ذكره الصادق عليه السلام في بعض الحديث في تفسير
ذكر الله كثيرا أنه قال : " أما إني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر الله في كل
موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية " .
(2) راجع كامل الزيارات ص 131 . ( * )
الشيخ المظفر